للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عربي مبين» وقال مرة أخرى: «أنا أفصح العرب، بيد أني من قريش، ونشأت في بني سعد» «١» .

فجمع الله له بذلك قوة عارضة البادية وجزالتها، ورقّة ألفاظ الحاضرة ورونقها، إلى المدد الإلهي بالوحي المتتابع، ولا سيما وحي القران الذي لا يحيط بعلمه وأسراره إنسي ولا جني، فلا عجب إذا قال: «أوتيت جوامع الكلم، واختصر لي الكلام اختصارا» رواه النسائي في سننه وأبو يعلى، ورويت الفقرة الأولى من حديث للبخاري ومسلم.

وإليك ما قاله في وصف كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، أديب من أكبر أدباء العربية غير منازع وهو الجاحظ قال:

(وأنا ذاكر بعد هذا فنا اخر من كلامه صلى الله عليه وسلم، وهو الكلام الذي قلّ عدد حروفه وكثر عدد معانيه! وجلّ عن الصنعة، ونزّه عن التكلف، وكان كما قال الله تبارك وتعالى: قُلْ- يا محمد- وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ «٢» فكيف وقد عاب التشديق، وجانب أصحاب التقعيب «٣» ، واستعمل المبسوط في موضع البسط والمقصور في موضع القصر، وهجر الغريب الوحشي، ورغب عن الهجين السوقي، فلم ينطق إلا عن ميراث حكمة، ولم يتكلم إلا بكلام قد حفّ بالعصمة، وشيّد بالتأييد، ويسر بالتوفيق.

وهو الكلام الذي ألقى الله عليه المحبة، وغشّاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبين حسن الإفهام، وقلة عدد الكلام، مع استغنائه عن إعادته، وقلة حاجة السامع إلى معاودته، لم تسقط له كلمة، ولا زلّت به قدم،


(١) ذكره القاضي عياض في الشفاء، وأصحاب الغريب في كتبهم، وروى نحوه الطبراني مرفوعا، وابن سعد مرسلا، وأما: (أنا أفصح من نطق بالضاد) فلا أصل له.
(٢) سورة ص: ٨٦، والاية بتمامها: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ، وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ.
(٣) التقعيب: هو التقعير، وهو أن يتكلم بأقصى قعر فمه، وهو لون من التكلف في الكلام.

<<  <  ج: ص:  >  >>