للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْإِسْلَامُ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، وَسَادَ أَهْلُهُ الْأُمَمَ وَالشُّعُوبَ بِسُرْعَةٍ لَمْ يُعْرَفْ لَهَا نَظِيرٌ فِي التَّارِيخِ.

فَإِسْلَامُ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ كَانَ بِتَأْثِيرِ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ وَهَدْيِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَجِهَادِهِ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ (١٧: ٩) ، نَهْدَيْ بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا (٤٢: ٥٢) وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا (٢: ٢٦) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ (٥: ١٦) وَقَالَ لِنَبِيِّهِ: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (٢٥: ٥٢) وَقَدْ كَانَ كُلُّ مَا كَانَ مِنِ اضْطِهَادِ رُؤَسَاءِ قَوْمِهِ الْمُعَانِدِينَ لَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِأَجْلِ صَدِّهِ عَنْ تَبْلِيغِ الْقُرْآنِ لِلْعَرَبِ لِجَزْمِهِمْ بِمَا يَكُونُ مِنْ جَذْبِهِمْ بِهِ إِلَى اتِّبَاعِهِ، كَمَا قَالَ لَهُمْ عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ فِي أَوَّلِ الْعَهْدِ بِتَبْلِيغِهِمُ الدَّعْوَةَ: خُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، قَبْلَ أَنْ تَجْتَمِعَ الْعَرَبُ عَلَيْهِ. وَلَمْ يَكُنْ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَطْلُبُ مِنْهُمْ، ثُمَّ مِنْ كُلِّ مَنْ كَانَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَيْهِمْ فِي الْمَوْسِمِ إِلَّا حِمَايَتَهُ لِيُبَلِّغَ دَعْوَةَ رَبِّهِ، وَلَمَّا أَسْلَمَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ سِرًّا، وَنَشَرُوا الدَّعْوَةَ فِي عَاصِمَتِهِمْ يَثْرِبَ، وَصَارَ لَهُمْ قُوَّةٌ يَحْمُونَهُ بِهَا مِنْ قُرَيْشٍ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ. فَمَا زَالَتْ قُرَيْشٌ تُقَاتِلُهُ إِلَى أَنْ رَضِيَ مِنْهُمْ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ قَوَّتِهِ أَنْ يُصَالِحَهُمْ فِي الْحُدَيْبِيَةَ بِالشُّرُوطِ الَّتِي يَرْضَوْنَهَا - مَعَ كَرَاهَةِ أَصْحَابِهِ كُلِّهِمْ لَهَا - فِي مُقَابَلَةِ الشَّرْطِ الْوَحِيدِ الَّذِي كَانَ هُوَ أَهَمَّ الْمُهِمَّاتِ عِنْدَهُ عَلَيْهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ، وَهُوَ حُرِّيَّةُ الِاخْتِلَاطِ وَالِاجْتِمَاعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْعَرَبِ، لِعِلْمِهِ بِأَنَّ سَمَاعَهُمْ لِلْقُرْآنِ - وَلَاسِيَّمَا مِنْهُ - كَافٍ لِإِسْلَامِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ كَانَ.

وَكَذَلِكَ مَا فَعَلَ خُلَفَاؤُهُ وَأَصْحَابُهُ الْهَادُونَ الْمَهْدِيُّونَ مِنَ الْعَجَائِبِ فِي نَشْرِ الْإِسْلَامِ وَفَتْحِ الْأَقْطَارِ، وَثَلِّ عُرُوشِ أَعْظَمِ دُوَلِ الْأَرْضِ قُوَّةً وَعَظْمَةً وَنِظَامًا وَتَشْرِيعًا وَحَضَارَةً، وَتَبْدِيلِ مَمَالِكِهِمْ وَشُعُوبِهَا بِذَلِكَ كُلِّهِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ - مَا فَعَلُوا ذَلِكَ كُلَّهُ إِلَّا بِتَأْثِيرِ الْقُرْآنِ.

وَأَمَّا انْتِشَارُ الْإِسْلَامِ فِي الْأَعَاجِمِ فَقَدْ كَانَ بِتَبْلِيغِ الصَّحَابَةِ ثُمَّ مَنْ تَبِعَهُمْ فِي هَدْيِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ فَالْعَجَمِ لِلدَّعْوَةِ، وَكَانَ بُرْهَانُهُمْ عَلَيْهَا مِنْ أَحْوَالِهِمُ الصَّالِحَةِ وَسِيرَتِهِمُ الْحُسْنَى أَقْوَى تَأْثِيرًا فِي تِلْكَ الشُّعُوبِ مِنْ أَقْوَالِهِمُ الَّتِي كَانَتْ تُنْقَلُ إِلَيْهَا بِالتَّرْجَمَةِ، وَلَمْ يَنْتَشِرِ الْإِسْلَامُ فِي شَعْبٍ مِنْهَا بِتَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ بِلُغَتِهِ، وَقِرَاءَتِهِمْ لِتَرْجَمَتِهِ، وَإِنَّمَا

كَانَتْ دَرَجَةُ الْهُدَى وَالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ تَرْتَفِعُ فِيهِمْ بِقَدْرِ تَدَبُّرِهِمْ لَهُ بَعْدَ تَعَلُّمِ لُغَتِهِ، فَكَانَ مِنْ مُتْقِنِي لُغَةِ الْقُرْآنِ مِنَ الْمَوَالِي كِبَارُ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الرَّأْيِ، وَجَهَابِذَةُ عُلُومِ اللُّغَةِ وَفُنُونِهَا، وَأَفْرَادُ الْعِبَادِ، وَنَوَابِغُ الْأُدَبَاءِ، وَفُحُولَةُ الشُّعَرَاءِ.

وَقَدْ كَانَ إِيمَانُهُمُ الصَّحِيحُ بِتِلْكَ الدَّعْوَةِ الْمُثْلَى هُوَ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى طَلَبِ لُغَةِ الدِّينِ (الْعَرَبِيَّةِ) مِنْ غَيْرِ إِلْزَامٍ حَاكِمٍ، وَلَا نِظَامِ تَعْلِيمٍ إِجْبَارِيٍّ تُؤَسَّسُ لَهُ الْمَدَارِسُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>