للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَدْ تُرْجِمَ الْقُرْآنُ فِي هَذِهِ الْقُرُونِ الْأَخِيرَةِ بِأَشْهَرِ لُغَاتِ الشُّعُوبِ الْكَبِيرَةِ مِنْ غَرْبِيَّةٍ وَشَرْقِيَّةٍ، فَكَانَتْ تَرْجَمَتُهُ مَثَارًا لِلشُّبَهَاتِ وَسَبَبًا لِلْمَطَاعِنِ، أَكْثَرُ مِمَّا كَانَتْ سَبَبًا لِلِاهْتِدَاءِ إِلَى الْإِسْلَامِ (فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّ مَثَارَ الشُّبَهَاتِ لَمْ يَكُنْ مِنَ التَّرْجَمَةِ بَلْ مِنَ الْخَطَأِ فِيهَا، وَذَلِكَ يُتَلَافَى بِالتَّرْجَمَةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي نَدْعُو إِلَيْهَا، وَإِنَّ سَبَبَ الطَّعْنِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا سُوءَ قَصْدٍ مِنْ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ مِنْ دُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ أَوِ الْمَلَاحِدَةِ، وَهَؤُلَاءِ يَطْعَنُونَ فِي الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ الْمُنَزَّلِ أَيْضًا.

(قُلْتُ) : إِنِّي عَلَى عِلْمِي بِهَذَا أَقُولُ: إِنَّ التَّرْجَمَةَ أَكْبَرُ عَوْنٍ عَلَى الْأَمْرَيْنِ، فَإِنَّ الَّذِي يَطْعَنُ فِي الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ ضَعِيفًا فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَوْ حَاذِقًا لَهَا رَاسِخًا فِيهَا، فَالْأَوَّلُ شَبِيهٌ بِمَنْ يُحَاوِلُ فَهْمَ الْقُرْآنِ مِنَ التَّرْجَمَةِ أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى مَنْ جَهْلِهِ بِاللُّغَةِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ يَتَكَلَّفُ الطَّعْنَ تَكَلُّفًا يُكَابِرُ بِهِ وِجْدَانُهُ، وَيُغَالِبُ ذَوْقَهُ وَبَيَانَهُ، فَيَجِيءُ طَعْنُهُ ضَعِيفًا سَخِيفًا، وَيَكُونُ الرَّدُّ عَلَيْهِ سَهْلَ الْمَسْلَكِ. وَاضِحَ الْمَنْهَجِ، وَقَلَّمَا يَكُونُ الدِّفَاعُ عَنِ التَّرْجَمَةِ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً، وَلَنْ تَكُونَ صَحِيحَةً إِلَّا فِي بَعْضِ الْجُمَلِ أَوِ الْآيَاتِ الْقَصِيرَةِ، دُونَ السُّورِ وَالْآيَاتِ الطَّوِيلَةِ. بَلْ بَعْضِ الْمُفْرَدَاتِ تَتَعَذَّرُ تَرْجَمَتُهَا بِمُفْرَدَاتٍ مِنَ اللُّغَاتِ الْأُخْرَى تُؤَدِّي الْمُرَادَ مِنْهَا، وَإِنَّهُ لَيُوجَدُ فِي كُلِّ لُغَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمُفْرَدَاتِ الَّتِي لَا يُوجَدُ لَهَا مُرَادِفٌ فِي لُغَةٍ أُخْرَى، وَفِي كَلَامِ بَعْضِ الْعَارِفِينَ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنَ اللُّغَاتِ الْمَشْهُورَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَرَبِيَّةَ أَغْنَاهُنَّ بِهَذِهِ الْمُفْرَدَاتِ دَعْ مَا لَهَا مِنَ الْخَصَائِصِ فِي فُنُونِ الْمَجَازِ وَالْكِنَايَاتِ.

تَعَذُّرُ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ:

قَدْ تَكَرَّرَ فِي كَلَامِنَا الْجَزْمُ بِتَعَذُّرِ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ، وَالْمُسْلِمُ الصَّحِيحُ الْإِسْلَامِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ عَلَى هَذَا ; لِأَنَّهُ يُؤْمِنُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ لِلْبَشَرِ بِأُسْلُوبِهِ وَنَظْمِهِ الْعَرَبِيِّ الْمُنَزَّلِ، كَمَا أَنَّهُ مُعْجِزٌ بِهِدَايَتِهِ وَإِصْلَاحِهِ لِلْبَشَرِ، وَقَدْ تَحَدَّى النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْعَرَبَ بِهَذَا الْإِعْجَازِ، وَتَحَدَّى الْمُسْلِمُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَهُمْ فَثَبَتَ عَجْزُ الْجَمِيعِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، وَصَدَقَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (١٧: ٨٨) وَالتَّرْجَمَةُ لَا تَكُونُ صَحِيحَةً إِلَّا إِذَا كَانَتْ مِثْلَ الْأَصْلِ، فَالْآيَةُ نَصٌّ قَطْعِيٌّ عَلَى عَجْزِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ عَوْنًا وَمُسَاعِدًا لِبَعْضٍ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ فَرْدٌ أَوْ جَمَاعَةٌ؟ ! .

وَإِنَّ الَّذِينَ يُرِيدُونَ تَرْجَمَتَهُ مِنَ التُّرْكِ لِصَرْفِ قَوْمِهِمْ بِهَا عَنِ الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللهِ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ بِهِ، فَتَقُومُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْحُجَّةُ، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْمُقَلِّدِينَ الَّذِينَ يَجْهَلُونَ كَثِيرًا مِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ وَفُرُوعِهِ لَيَنْخَدِعُونَ بِشُبَهَاتِ الْقَائِلِينَ بِتَرْجَمَةِ الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ بِاللُّغَاتِ

<<  <  ج: ص:  >  >>