في ظني الراجح إلى البيئة التي حوله، فالمؤلف عاش في عصر دولة الموحدين التي تبنَّى مؤسسها ابن تومرت العقيدة الأشعرية، كما درس المؤلف في قرطبة على يد مشايخ أشاعرة، وفي مصر كذلك، بل لازم شيخه أبا العباس أحمد بن عمر القرطبي وهو صاحب شخصية قوية، ومن المنافحين الأشداء عن العقيدة الأشعرية ومنهج التأويل، كذلك كان أصحابه وجلساؤه من أهل الكلام والنظر، كما صرح بذلك.
فالذي يظهر من ذلك كله أن القرطبي حاول أن يُعْمِلَ سياسة التوفيق بين ما يُكنه للسلف من إجلال وتقدير وبين ما تأثر به ممن حوله، وذلك بإيراد أقوال السلف والمتكلمين في المسألة من مسائل الصفات مع ترجيح أو اختيار لمنهج المتكلمين، مع إقراره أن الحق مع السلف، وإليك هذا النقل العجيب الذي يوضح ما ذكرته لك: فبعد أن أورد القرطبي أربعة عشر قولًا في كتاب الأسنى في أسماء الله الحسنى في مسألة الاستواء، قال في نهاية تلك الأقوال:"وأظهر هذه الأقوال وإن كنت لا أقول به ولا أختاره ما تظاهرت عليه الآي والأخبار أن الله سبحانه على عرشه كما أخبر في كتابه وعلى لسان نبيه بلا كيف، بائن من خلقه، هذا جملة مذهب السلف الصالح فيما نقل عنهم الثقات"(١)، فالمتأمل في عبارة القرطبي السابقة يلاحظ عليها استعجاله في البراءة من الحق الذي ظهر له، فربما كان المؤلفُ يخشى هجومًا قويًا من المخالفين لمنهج السلف إذا ما أظهر الحقَّ أولًا ثم أخَّر البراءة منه في آخر القول، فبادر إلى عدم اختيار الحق الذي ظهر له قبل أن يكمل أن هذا الحق هو الذي تظاهرت عليه الآي والأخبار، وكان بإمكانه لولا شراسة مَن حوله أن يقول: وأظهر الأقوال هو قول السلف الصالح وهو الذي تظاهرت عليه الآي والأخبار .. وإن كنت لا أقول به ولا أختاره، فيكون للبيئة سلطانها وتأثيرها ونفوذها القوي في عدم تبني المؤلف للحق الذي ظهر له، وبالتالي الصدع به.
وقد حاولت جاهدًا التعرفَ على آخر كُتُبِ القرطبي تأليفًا، وعلى وجه