قلت: مما لا شك فيه أن قصة التحكيم التي تحمل مخادعة عمرو بن العاص أبا موسى الأشعري باطلة من أوجه: الأول: أن الخلاف بين معاوية وعلي ﵄ لم يكن في أمر الخلافة، ولا من هو الأولى بها، فهذا أمر مفروغ منه عند كل الصحابة رضوان الله عليهم، وإنما كان اشترط معاوية للمبايعة أن يقتص علي أولًا من قتلة عثمان ﵁. الثاني: أن القصة تحمل كذب عمرو بن العاص ﵁، والكذب من أكبر خوارم المروءة، والصحابة باتفاق أهل السنة والجماعة كلهم عدول. الثالث: أن القصة تضمنت اختلاف الصحابيين فيما لمتفقا عليه حال الإعلان عنه، وهذا يكفي لرد ما تم الإعلان عنه. وأما الرواية التي صححها الإمام أبو بكر بن العربي والتي نسبها إلى الدارقطني وخليفة بن خياط، وإن كنت أميل إليها إلا أنه استوقفني فيها ما يلي: أولًا: لم أقف عليها في تاريخ خليفة بن خياط، ولا في سنن الدارقطني أو العلل له، ولم أعرف له كتابًا في تاريخ الرجال وأحوالهم غير العلل، كما بحثت عنها في تاريخ الطبري، وطبقات ابن سعد، والبداية والنهاية لابن كثير، والمنتظم لابن الجوزي، والعبر والسير كلاهما للذهبي، وغير ذلك من كتب التاريخ، وبحثت عنها في مجموع الفتاوى ومنهاج السنة النبوية كلاهما لشيخ الإسلام، وفي كتب ابن القيم، وكتب العقائد المسندة، وكتاب الاستيعاب لابن عبد البر، والإصابة لابن حجر، وغير ذلك من الكتب فلم أقف عليه. ثانيًا: ورد في رواية الدارقطني التي ذكرها ابن العربي جملة "لما عزل عمرو معاوية" وهي تخالف ما ذكره عمرو بن العاص في ذكره لما جرى بينه وبين أبي موسى؛ ولأن الخلاف ليس في الخلافة حتى يعزل عمرو معاوية، فالذي يظهر أنها من فهم حضين بن المنذر لما سمع من أمر التحكيم، أو أنها من كلام ابن العربي. ثالثًا: أن كلام أبي موسى الأشعري يتجه إلى تفويض الأمر إلى خيار الصحابة للبت في الخلاف بين علي ومعاوية بأيهما يبدأ علي ﵁ بالقصاص من قتلة عثمان أولًا أم استتباب الأمور ثم القصاص من قتلة عثمان؛ لأنه لا خلاف بين الصحابة في غير هذا، والله أعلم. =