فبينا نحن نسير إذ نودي بالنفير، قال: فتقدم الغلام أمام الخيل، وكثر العدو فخشيت عليه أن يقتل، قال: فرجعت في طلبه، فقلت له: حبيبي ليس هذا موضع مثلك، أنت راجل بغير دابة، ولست آمن عليك جولان الخيل وثوران الحرب، فقال: أبا قدامة أتأمرني بالرجوع وقد سمعت الله تعالى يقول في محكم كتابه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ}.
{وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (١). أفتأمرني بالرجوع بعد علمي بوعد ربي عز وجل! قال: فلما أن أبى عليّ حملته على هجين كان معي فتقدم فلم يزل يضرب يمنة ويسرة، ثم رجع فسلم علي سلام مودع كأنه أحس بالموت، ثم انطلق ليرمي السهم الثالث فلما وضعه في كبد قوسه أتاه مزراق، فضربه بين عينيه، فنكس الغلام رأسه على عنق فرسه، وهو يقول: نجوت ورب الكعبة، ثم نادى، أخفض من الأول:
نجوت ورب الكعبة.
قال: فخشيت أن يموت فدنوت منه فقلت: حبيبي لا تنسى حاجتي الشفاعة، قال: لا يا أبا قدامة، ولكن لي إليك حاجة، قلت: وما هي؟ قال: أنا ابن صاحبة الوديعة، فإذا أنت أتيت المدينة فات دكان يحيى (١٧٩ - ظ) العلاف فإن لي عنده خرجا، فخذه وانطلق به الى والدتي، وصبرّها فإنها عام أول أصيبت بوالدي، والعام يزيد عليها ثكلي، قال: ثم سكت فمات.
فلما سكنت الحرب ودفنا القتلى، حفرنا له مطمورة، فألقيناه فيها بأطماره، ودفناه، فو الله ما تمالكنا النهوض حتى نبذته الأرض على ظهرها، وأقبل علي أصحابي فقالوا: يا أبا قدامة ألم نقل لك إنه غلام، ولعله خرج عن غير إذن أبويه، فقلت: مهلا إن الأرض لتقبل من هو شرمنه، إنها لتقبل اليهود وغيرهم، ثم تنحّيت فصليت ركعتين، ودعوت ربي وقلت: اللهم إنه عبدك ابن عبدك، ابن أمتك، فإن كنت تعلم منه شيئا فاستره عليه، قال: فو الله ما استتممت الدعاء حتى سمعت وقع خلاخيل الحور العين، وهم يقولون: تنح يا أبا قدامة وخل بيننا وبين ولي الله،