يقول: دخلت على الشيخ أبي العلاء التنوخي بالمعرة ذات يوم في وقت خلوة بغير علم منه، وكنت أتردد إليه وأقرأ عليه، فسمعته وهو ينشد من قبله:
كم غودرت غادة كعاب … وعمرت أمّها العجوز
أحرزها الوالدان خوفا … والقبر حرز لها حريز
يجوز أن تبطئ المنايا … والخلد في الدّهر لا يجوز
ثم تأوه مرات وتلا قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ. وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاّ} (١٧١ ظ) {لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ. يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ» (١)، ثم صاح وبكى بكاء شديدا وطرح وجهه على الأرض زمانا، ثم رفع رأسه ومسح وجهه وقال:
سبحان من تكلم بهذا في القدم، سبحان من هذا كلامه، وسكت وسكن، فصبرت ساعة ثم سلمت عليه، فرد علي وقال: يا أبا الفتح متى أتيت؟ فقلت: الساعة، فأمرني بالجلوس، فجلست وقلت: يا سيدنا أرى في وجهك أثر غيظ، فقال: لا يا أبا الفتح بل أنشدت شيئا من كلام المخلوق وتلوت شيئا من كلام الخالق، فلحقني ما ترى، فتحققت صحة دينه وقوة يقينه.
أخبرنا أبو القاسم الأنصاري عن الحافظ أبي طاهر السّلفي، وأنبأنا أبو القاسم اللخمي قال: وسمعت أبا طاهر أحمد بن محمد يقول: وقد كان شيخانا أبو زكريا التبريزي ببغداد وأبو المكارم الأبهري بأبهر، وهما هما ولا يخفى من العلم محلّهما، يبالغان في الثناء عليه ويصفانه بالزهد والدين القوي، والعقيدة الصحيحة القوية، والخوف من الله تعالى، وإن كل ما يذكر من شعره إنما كان يذكره على ما جرت به عادة أهل الأدب، كما فعله أبو الحسين بن فارس في فتيا فقيه العرب، وقبله أبو بكر بن دريد في الملاحن، وعدّ ذلك منهما في جملة