وبكى الحاضرون من أولاده وغيرهم، فقال لي: لا تكن إلاّ رجلا، ولا تعمل عمل النساء ولا تغير هيئتك، وكن على مقتضى طريقتك، فلما كان الليل اشتد به الضعف وانصرفت في حاجة فحدثني بعض من كان جالسا عنده من أهله أنه أفاق فزعا مرتعبا، فقال: بالله تقدموا إليّ فإني أجد وحشة، فسئل مم ذلك، فقال: أرى صفا عن يميني فيهم أبو بكر وسعد صورهم جميلة، وعليهم ثياب بيض، وصفا عن يساري صورهم قبيحة فيهم أبدان بلا رؤوس وهؤلاء يقولون: تعال إلينا، وهؤلاء يقولون:
تعال إلينا وأنا أريد أن أروح الى أهل اليمين، وكلما قال لي أهل الشمال مقالتهم قلت: والله ما أجيء إليكم خلوني من أيديكم، وقد ارنعبت منهم ثم أغفى اغفاءة، ثم قال: الحمد لله خلصت منهم، وقال: رأيت امرأة جميلة لم أر أحسن منها قد جاءت إليّ فأعرضت عنها فكلمتني كالتي تستميلني فقلت: والله ما لي بك من حاجة هذه زوجتي عندي وأنا عنها مشغول، فروحي عني فإن نومه أحب إليّ فقالت:
زوجتك ما تدوم لك وما يدوم لك إلاّ نحن.
قال الحسن: وتوفي رحمه الله صبيحة هذه (٢٩٥ - ظ) الليلة حين تنفس الصبح من يوم السبت السادس والعشرين من جمادى الأولى سنة ست وخمسين وستمائة بالبويضا.
كذا قال لي ولده، ووجدت تاريخ وفاته بخطي أنه توفي أول طلوع الفجر من يوم السبت الثامن والعشرين من جمادى الأولى من سنة ست وخمسين وستمائة وحضر الملك الناصر يوسف بن محمد الصلاة عليه، واستصحبني معه الى البويضاء، وقدمني للصلاة عليه، فصليت عليه بإذن من أولاده، وكان قد أوصى أن يغسله القاضي شمس الدين عبد الله بن محمد بن عطاء الحنفي قاضي دمشق، قال لي ولده الحسن فغمضت عينيه وشددت لحيته وقلبت الماء عليه، فرأيته كأحسن نائم فقلت للقاضي شمس الدين عبد الله: ما ترى وجهه؟ فقال: هو الآن أحسن منه حيا.
وحملت جنازته الى جبل الصالحين، فدفن في تربة أبيه الملك المعظم رحمه الله الى جانبه من الشمال، ودخل الملك الناصر به الى والدته بعد الصلاة عليه وعزاها وسلاها، ووعدها في مخلفيه خيرا رحمه الله رحمة واسعة.