فأحب أن يسكن طرسوس، فاستأذن في ذلك، فأذن له، فخرج قاصدا يريد الثغر، وكان خمارويه يومئذ بدمشق فلما بلغ راغب إلى حلب وهمّ بالدخول إلى طرسوس قيل له: طرسوس من عمل أبي الجيش، وهو بالقرب منك، فلو صرت إليه زائرا وقضيت حقه، وعرفته ما عزمت عليه من المقام بالثغر ما ضرك ذلك، وكان أجلّ لمحلك وأقوى لك على ما تريده، فبعث بثقله وجميع ما كان معه مع غلام له يعرف بمكنون وأمره أن يتقدمه إلى طرسوس، ورحل هو مخفا إلى دمشق، فلقي أبا الجيش فأحسن أبو الجيش تلقيه وسر بنظره ووصله وأحسن إليه وكان يكثر عنده ويحادثه، وكانت لراغب عارضه وبيان وحسن عبارة (١١ - ظ) وكان قد رأى الخلفاء وعرف كثيرا من أخبارهم، فكان يصل مجلسه بشيء من أخبارهم وسيرهم، فأنس به خمارويه، وكان يستريح الى حديثه ومذاكرته، فلما رأى راغب ما يخصه به خمارويه من التكرمة والأنس به والاستدعاء إذا تأخر استحيا أن يذكر له الخروج إلى طرسوس، فلما طال مقامه بدمشق ظن مكنون غلامه أن أبا الجيش قد قبض عليه ومنعه من الخروج إلى الثغر، فأذاع ما ظنه عند المطوعة وشكاه إليهم، وأكثر هؤلاء المطوعة من أهل الجبل وخراسان، معهم غلظ الأعجمية وسوء أدب الصوفية فأحفظهم هذا القول وظنوه حقا، فقالوا: تعمد إلى رجل قد خرج إلى سبيل الله محتسبا نفسه لله عز وجل. وفي مقام مثله في الثغر قوة للمسلمين وكبت لأعدائهم من الكافرين، فتقبض عليه وتمنعه من ذلك جرأة على الله فتلففوا وتجمعوا ومشى بعضهم الى بعض وأقبلوا الى واليهم وهو ابن عم خمارويه، فشغبوا عليه، فأدخلهم إليه ليسكن منهم ويعدهم بما يحبون، فقبضوا عليه وقالوا: لا تزال في اعتقالنا أو يطلق صاحبك صاحبنا، فإن قتله قتلناك به، وتسرع سفلهم إلى داره فنبهت وهتكت حريمه ولحقه كل ما يكره، وجاءت الكتب إلى أبي الجيش بذلك فأحضر راغبا وأقرأه الكتب: وقال له: والله ما منعناك ولا حظرنا عليك الخروج ولقد سررنا بقربك وما أوليت وأوليناك (١٢ - و) إلا جميلا، وقد جنى علينا سوء ظن غلامك ما لم نجنه فإذا شئت فارحل مصاحبا، وقل لأهل طرسوس:
يا جهلة ما يومنا فيكم بواحد تتسرعون الى ما نكره مرة بعد أخرى ونغضي عنكم، ويحلم الله عز وجل، ولولا المحافظة على ثغر المسلمين وعز الاسلام لا خشية منكم