أحب أن أنام على هذا السرير فنام فأخذه الموت ورفع ذلك البيت إلى السماء. فلما رجع موسى إلى قومه اتهمه بنو إسرائيل بقتل أخيه وكان ألين لهم، فقام وصلى ثم دعا الله فنزل السرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض. وكان ذلك قبل وفاة موسى بأحد عشر شهرًا وقيل غير ذلك. قال المسعودي: إنه دفن في جبل حران مما يلي الطور [سيناء] والله أعلم].
٥٢٢٩ - هارون بن محمد بن منصور الرَّشيد، الخليفة (١)، أمير المؤمنين أبو جعفر الهاشمي العباسي، مولده بالري لما كان أبوه أميرا عليها وعلى خراسان في سنة ١٤٨، وأمه أم ولد تسمى خيزران أم الهادي. بويع بالخلافة بعد موت أخيه بعهد من أبيه في ليلة وفاته وولد له تلك الليلة ولده المأمون، وكانت ليلة عجيبة لم ير مثلها في بني العباس. وكان يكنى أبا موسى فتكنى بأبي جعفر وكان أبيض طويلًا جميلًا مليحًا جسيمًا سمينًا فصيحًا قد وَخَطَه الشيب قبل موته، نقش خاتمه: العظمة والقدرة دله، وهو من أجلّ ملوك الأرض له نظر في العلم والأدب، وكان يصلي في كل يوم مائة ركعة ويتصدق من خالص ماله كل يوم بألف درهم، وكان يغزو سنة ويحج سنة، وفيه يقول بعض شعرائه:
فمن يطلب لقاءك لمهمٍ ... فبالحرمين أو أقصى الثغورِ
وكان يحب العلم وأهله ويعظم الإسلام ويبغض المراء في الدين والكلام في معارض النص، وكان يبكي على نفسه وإسرافه لاسيما إذا وعظ يأتي إلى الفضيل ويسمع وعظه. وعن أبي معاوبة الضرير قال: أكلت مع الرشيد يومًا ثم صبّ على يدي رجلٌ لا أعرفه، ثم قال لي الرشيد: أتدري من يصبّ عليك، قلت: لا، قال أنا إجلالًا للعلم. قال الحافظ اجتمع للرشيد ما لم يجتمع لغيره، ووزراؤه البرامكة وقاضيه أبو يوسف وشاعره مروان بن أبي حفصة ونديمه عم أبيه العباس وحاجبه الفضل بن الربيع ومغنيه إبراهيم الموصلي وزوجته زبيدة بنت القاسم انتهى. وكان أغزاه أبوه أرض الروم وهو ابن خمس عشرة سنة وفتحت في خلافته فتوحات كثيرة، وهو الذي فتح عمورية وأحرقها وسبى أهلها. وكان الرشيد يحب اللهو والطرب والمديح ويجيز عليه الأموال الجزيلة. ولم يتكلم فيه سوى ابن حزم الظاهري. وفي سنة ١٨٦ عقد الأمر بعده للأمين ثم بعده للمأمون ثم للمؤتمن، لكن إن شاء المأمون قرره وإن شاء محاه عن الأمر، وأخذ على كل أغلظ الأيمان وعلق ذلك في الكعبة. وكانت أيام الرشيد كلها خيرًا كأنها من حسنها أعراس، وأخباره ومحاسنه كثيرة. خرج في آخر عمره إلى الغزو فأدركته ألبلية بطوس في ثالث جمادى الآخرة سنة ١٩٣ وصلى عليه ابنه صالح ودفن