للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سيف الدولة: اجلس، فقال: حيث أنا أو حيث أنت؟ فقال: حيث أنت، فتخطى رقاب الناس حتى انتهى إلى مَسند سيف الدولة وزاحمه فيه حتى أخرجه عنه، وكان على رأس سيف الدولة مماليك، وله معهم لسان خاص يسارّهم (١) به، فقال لهم بذلك اللسان: هذا الشيخ قد أساء الأدب وإني مُسَائله عن أشياء إن لم يعرفها أخرقوا به، فقال له أبو نصر: أيها الأمير، اصبر فإن الأمور بعواقبها، فعجب سيف الدولة منه وعظم عنده وأخذ يتكلم مع العلماء الحاضرين في كل فَنٍّ، فلا يزال كلامه يعلو وكلامهم يسفل، حتى صمت الكُلُّ وبقي يتكلم وحده ثم أخذوا يكتبون ما يقوله، فصرفهم سيف الدولة وخلا به فقال له: هل لك في أن تأكل؟ فقال: لا، فقال: فهل لك في أن تشرب (٢)، فقال: لا فقال: فهل (٣) تسمع؟ قال: نعم فأمر سيف الدولة بإحضار القِيَان فحضر كل ماهر في الصنعة بأنواع الملاهي، فخطَّأ الجميع، فقال [له] سيف الدولة: وهل تحسن [في] هذه الصنعة؟ فقال: نعم، ثم أخرج من وسطه خريطة ففتحها وأخرج منها عيداناً وركّبها ثم لعب بها فضحك [منها كل] من في المجلس، ثم فكّها وركّبها تركيباً آخر وضرب بها، فبكى كل من [كان] في المجلس، ثم فكها وغَيَّر تركيبها وحركها، فنام كل من [كان] في المجلس، حتى البَوَّاب فتركهم نياماً وخرج.

وفي "طبقات النحاة" (٤) أن أبا بكر محمد بن علي الشهير بمبرمان (٥) النحوي كان ضنيناً بالأخذ عنه لا يقرئ "كتاب سيبويه" إلا بمائة دينار فقصده أبو هاشم الجُبَّائي فقال له: قد عرفت الرسم؟ فقال: نعم، لكن أسألك النَّظرة، وأحمل إليك شيئاً يساوي أضعاف المئة فتدعه عندك إلى أن يجيئني مال لي ببغداد، فأحمل إليك ما تريد واسترجع ما عندك، فتمنّع قليلاً ثم أجابه فمضى أبو هاشم إلى زِنْفِيلَجَةٍ (٦) حسنةٍ محلاّة فملأها حجارة وقفلها وختمها وحملها حتى وضعها بين يديه. فلما رأى منظرها وثقلها لم يشك في حقيقة ما ذكره، فوضعها [عنده] وأخذ عليه فما مضى مدة حتى ختم الكتاب فقال له: أحمل مالي قِبَلك فقال: أنفِذ معي غلامك حتى أدفع إليه فأنفذه [معه] فجاء إلى منزله وكتب إليه رقعةً فِيها: قد تعذَّر عليَّ حضوُر المال وقد أَبَحْتُكَ (٧) التصرف في الزِّنفِيلجة وهذا خطِّي حُجَّة بذلك وخرج أبو هاشم


(١) في الأصل: "يساررهم" وما أثبتناه من "وفيات الأعيان" و"شذرات الذهب" وما بين الحاصرتين تكملة منهما.
(٢) في "وفيات الأعيان" و"شذرات الذهب": "فهل تشرب".
(٣) في الأصل: "هل" وما أثبتناه من "وفيات الأعيان" و"شذرات الذهب".
(٤) انظر "بغية الوعاة" (١/ ١٧٥ - ١٧٧) وما بين الحاصرتين تكملة منه.
(٥) سبقت ترجمته في القسم الأول برقم ٤٣٤٨.
(٦) جاء في هامش الأصل: زنفيلجه: معرَّب زنبيل. والزنفيلجه أو الزنفليجه: فارسية معرّبة، وهي الوعاء. كما في "المعزب" (١٧٠).
(٧) في الأصل: "وقد الحقك" والتصحيح من "بغية الوعاة".

<<  <  ج: ص:  >  >>