للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فوضع نصب عينيه أن يكون خطابه لهم بلغتهم التي يفهمونها بسهولة، أي باللغة التركية التي هي اللغة الرسمية للدولة. وقد استفاد كثيرًا من الأدبيات الفارسية لكنه لم يكتب بالفارسية. وكان كاتب جلبي عندما يرى مخاطبة العلماء والمثقفين الموجودين داخل وخارج رقعة الأراضي العثمانية المنسوبين إلى أقوام ومجموعات عرقية متباينة فإنه يختار لهم اللغة العربية، اللغة العلمية المشتركة. ومن أبرز الأمثلة على ذلك -إلى جانب كتابيه- كشف الظنون، وسلم الوصول - كتابه المعروف اختصارًا باسم فذلكة، والموسوم بعنوان: "فذلكة أقوال الأخيار بعلم التاريخ والأخبار"، والموصوف بالتاريخ الكبير الذي هو تاريخ عام بالعربية يبدأ من بدء الخليقة حتى سنة ١٠٥١ هـ / ١٦٤١ م (٢). ولا شك أن قيام كاتب جلبي بجعل اللغة العربية لغةً لهذه الأعمال الموسوعية الثلاثة إنما يكون قد قدم خدمة جليلة في المجال العلمي، كما يصبح جديرًا بأن يكون عَلَمًا من أعلام تاريخ الثقافة الإسلامية بعد هذه المؤلفات التي لا يمكن الاستغناء عنها في الأدبيات الإسلامية (٣).

والناظر في "كشف الظنون" -الذي هو قمة من قمم تاريخ الأدبيات الإسلامية- يدرك أن كاتب جلبي قد أتحفنا بمعجم ببليوغرافي لا نظير له بما قدم من معلومات حول ما يقرب من خمسة عشر ألف كتاب؛ كما أنه أعد في مجال التراجم كتابًا آخر يعدله في القيمة سَمّاه: "سلم الوصول إلى طبقات الفحول". وكان هناك عدد محدود من الناس حاولوا الاستفادة من هذا الكتاب الذي ظل في حالة مخطوط حتى اليوم. وها نحن بعد جهود مستمرة منذ عام ١٩٩٨ م نقدم هذا العمل الهام لخدمة الباحثين نصًا محققًا تحقيقًا علميًا جادًّا.

ويضم هذا المعجم البيوغرافي في مجمله نحو ٨٥٦١ ترجمة. وقد جرى ترتيب التراجم في قسمه الأول بحسب أسماء الأشخاص، أما في القسم الثاني فإنه يتحدث عن كنى وأنساب وألقاب هؤلاء الأعلام وغيرهم بطريقة منهجية معينة.


(٢) قام المؤرخ المصري سيد محمود سيد ابراهيم بإعداد القسم الخاص بتاريخ العثمانيين منه، وقام بنشره مجمع التاريخ التركي في أنقرة (٢٠٠٩).
(٣) من المعروف أن العلماء العثمانيين كانوا بوجه عام يعرفون تلك اللغات الثلاث (أو بحسب تعبيرهم الألسنة الثلاثة)، وكانوا يكتبون أعمالهم بالعربية والفارسية إلى جانب لغتهم الأم (اللغة التركية)، وكان الأدب التركي واقعًا تحت تأثير الأدب الفارسي. ولأجل هذا كان على العالم العثماني الذي يود التقدم في مجال العلوم والآداب ويفهم جيدًا ما كتب فيها أن يقدم على تعلم تلك اللغات الثلاث وإتقانها. بل إن السلاطين الكبار مثل السلطان الفاتح والسلطان سليم الأول والسلطان سليمان القانوني كانوا يتقنونها، وكان منهم من قرض الشعر بالفارسية، ويوجد للسلطان سليم ديوان شعر فارلسي. وهناك كثير من العلماء العثمانيين ممن كانوا يستخدمون لغتين منها أو الثلاثة معًا في مؤلفاتهم، وعلى سبيل المثال فإن قاضي زاده وعلي قوشجي وضعا مؤلفاتهما بالفارسية أو العربية، بينما استخدم التركية والعربية في الكتابة كل من محمد بن الكاتب سنان ومصطفى بن علي الموقت وقنالى زاده والبركوي وأبي السعود أفندي، أما ميرم جلبي وابن كمال باشا وفضولي فقد استخدموا اللغات الثلاث.

<<  <  ج: ص:  >  >>