للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقال الشوكاني: "وقد أطال المتكلمون الخصام في تفسير الضلال المذكور هنا، وفي نسبته إلى الله سبحانه، وقد نقح البحث الرازيُّ في تفسيره مفاتيح الغيب في هذا الموضع تنقيحاً نفيساً، وجوّده وطوّله، وأوضح فروعه، وأصوله، فليرجع إليه فإنه مفيد جداً، وأما صاحب الكشاف، فقد اعتمد ها هنا على عصاه التي يتوكأ عليها في تفسيره، فجعل إسناد الإضلال إلى الله سبحانه بكونه سبباً، فهو من الإسناد المجازي إلى ملابس للفاعل الحقيقي، وحكى القرطبي عن أهل الحق من المفسرين أن المراد بقوله {يُضِلَّ} يخذل" (١)، نقل هذا عن الرازي، والزمخشري، وأبي حيان، والقرطبي، وأبي السعود، والألوسي (٢).

[[ارتباط العذاب بالفسق والخروج عن أمر الله]]

قال تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩)} [سورة البقرة: ٥٩]

٨. قال الشيخ محمد رشيد -رحمه الله-: "ويدل على قوله - تعالى -: (فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ) على أن هذا العصيان لم يكن من كل بني إسرائيل، وأن هذا الرجز كان خاصا بالظالمين منهم الذين فسقوا عن الأمر ولم يمتثلوه، وقد أكد هذا المعنى أشد التأكيد بوضع المظهر موضع المضمر، فقال: (فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)، ولم يقل: فأنزلنا عليهم؛ ولعل وجه الحاجة إلى التأكيد الاحتراس من إبهام كون الرجز كان عاما، كما هو الغالب فيه، ثم أكده بتأكيد آخر، وهو قوله: (بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ)، وفي هذا الضرب من المقابلة من تعظيم شأن المحسنين ما فيه" (٣).

[الدراسة]

استنبط الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله- استنباطا بلاغيا، في مسألة خروج الكلام على مقتضى الظاهر، في مسألة ارتباط العذاب بالفسق والخروج عن أمر الله، بدلالة المطرد من أساليب القرآن.

وجه الاستنباط: أن العصيان لم يكن من كل بني إسرائيل، وأن العذاب النازل خاص بالظالمين منهم خاصة، واستدل لهذا بقوله: "وقد أكد هذا المعنى أشد التأكيد بوضع المظهر موضع المضمر"، ثم بين سبب هذا التأكيد، وهو الاحتراس (٤) من أن يكون الرجز عاما لهم، فهو بهذا دفع الإيهام أن يكون العذاب نازلاً على بني إسرائيل كلهم، وإنما هو خاص بمن كانت هذه صفته.


(١) فتح القدير (١/ ٥٨).
(٢) انظر: مفاتيح الغيب الرازي (٢/ ٢٦٦ - ٢٧٢)، الكشاف (١/ ١١٨)، البحر المحيط (١/ ٢٠٢)، الجامع لأحكام القرآن (١/ ٢٤٤)، تفسير أبي السعود (١/ ٩٤)، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، الألوسي (١/ ٢١١).
(٣) تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) (١/ ٢٦٩).
(٤) الاحتراس أو التكميل: اسمان أُطْلِقا على مسمَّى واحد، وهو زيادة إطنابيّةٌ في الكلام يَدْفَع بها المتكلّم إيهاماً اشتمل عليه كلامه، ويكون هذا الاحتراس حينما يأتي المتكلم بكلام يوهم خلاف ما يُريد، ويأتي بَعْدَه بكلامٍ يدفع به ذلك الإِيهام، ومثل هذا يُوجَد في أرفع الكلم لتحقيق غرضٍ بلاغي، وقد يوجد في كلام أهل الخطب الارتجالية على سبيل التدارك لما جاء في كلامهم ففطنوا إليه فاحترسوا تكميلاً، البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها (ص: ٥٣١).

<<  <   >  >>