للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[[توسيع الله وتقتيره على عباده في الرزق وفق ما يصلحهم]]

قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [سورة المائدة: ٦٤]

١٤. قال الشيخ محمد رشيد -رحمه الله-: "والنكتة في قوله: (كَيْفَ يَشَاءُ) بيان أن تقتير الرزاق على بعض العباد، الجاري على وفق الحكمة وسنن الله تعالى في الاجتماع لا ينافي سعة الجود وسريانه في كل الوجود، فإن له سبحانه الإرادة والمشيئة في تفضيل بعض الناس على بعض في الرزق، بحسب السنن التي أقام بها نظام الخلق" (١).

[الدراسة]

استنبط الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله- استنباطا عقديا، في باب توحيد الربوبية، في مسألة توسيع الله وتقتيره على عباده في الرزق وفق ما يصلحهم، بدلالة المفهوم.

وجه الاستنباط: دلت الآية على إثبات المشيئة لله عز وجل وأن تقتيره على بعض الناس وإغداقه على بعضهم، إنما هو جار على سنن الله الكونية، وليس تفضيلا لأحد على أحد، بل وفق حكمته وفضله وعدله، وبذلك استقامت السماوات والأرض، وفي هذا رد على المعتزلة ومن شاكلهم، ممن خلطوا بين المشيئة والإرادة وبين الحكمة والعدل، ولم يهتدوا إلى ما فيها من معان تليق بالله عز وجل.

قال الرازي: "واعلم أن هذه الآية رد على المعتزلة، وذلك لأنهم قالوا: يجب على الله تعالى إعطاء الثواب للمطيع، ويجب عليه أن لا يعاقبه، ويجب عليه أن لا يدخل العاصي الجنة، ويجب عليه عند بعضهم أن يعاقبه، فهذا المنع والحجر والقيد يجري مجرى الغل، فهم في الحقيقة قائلون بأن يد الله مغلولة وأما أهل السنة فهم القائلون بأن الملك ملكه، وليس لأحد عليه استحقاق، ولا لأحد عليه اعتراض كما قال قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا [المائدة: ١٧]، فقوله سبحانه: بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء لا يستقيم إلا على المذهب والمقالة، والحمد لله على الدين القويم والصراط المستقيم" (٢).

قال أبو السعود: " {بل يداه مبسوطتان} عطف على مقدر يقتضيه المقام أي كلا ليس كذلك بل هو في غاية ما يكون من الجود وإليه أشير بتثنية اليد فإن أقصى ما ينتهي إليه همم الأسخياء أن يعطوا ما يعطونه بكلتا يديهم وقيل التثنية للتنبيه على منحه تعالى لنعمتي الدنيا والآخرة وقيل على إعطائه إكراما وعلى إعطائه استدراجا {ينفق كيف يشاء} جملة مستأنفة واردة لتأكيد كمال جوده وللتنبيه على سر ما ابتلوا به من الضيق الذي اتخذوه من غاية جهلهم وضلالهم ذريعة إلى الاجتراء على تلك الكفرة العظيمة والمعنى أن ذلك ليس لقصور في فيضه بل لأن إنفاقه تابع لمشيئته المبنية على الحكم التي عليها يدور أمر المعاش والمعاد وقد اقتضت الحكمة بسبب ما فيهم من شؤم المعاصي أن يضيق عليهم (٣).


(١) تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) (٦/ ٣٧٧).
(٢) مفاتيح الغيب (١٢/ ٣٩٦).
(٣) إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (٣/ ٥٨).

<<  <   >  >>