للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

١٩. قال الشيخ محمد رشيد -رحمه الله-: "وقد قدم هنا ذكر الدية، وأخر ذكر الكفارة، وعكس في قتل المؤمن، ولعل النكتة في ذلك الإشعار بأن حق الله - تعالى - في معاملة المؤمنين مقدم على حقوق الناس، ولذلك استثنى هنالك في أمر الدية فقال: (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) لأن من شأن المؤمن العفو والسماح، والله يرغبهم فيما يليق بكرامتهم ومكارم أخلاقهم، ولم يستثن هنا؛ لأن من شأن المعاهدين المشاحة والتشديد في حقوقهم، وليسوا مذعنين لهداية الإسلام فيرغبهم كتابه في الفضائل والمكارم وثم نكتة أخرى وهو أن في سماح المعاهد للمؤمن بالدية منة عليه، والكتاب العزيز الذي وصف المؤمنين بالعزة لا يفتح لهم باب هذه المنة" (١).

[الدراسة]

استنبط الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله- استنباطا أصوليا، في باب المقاصد، في مسألة موازنة الشريعة بين حق الله وكرامة المؤمن ورعاية حق المعاهد، بدلالات المطابقة والتضمن واللزوم.

وجه الاستنباط: بالنظر إلى النظم البديع وترتيبه لحقوق الله وحقوق المسلم وواجباته، وحقوق المعاهدين وواجباتهم، فإن ذكر حق الله تعالى في المعاملة مع المؤمنين مقدم على حقوق الناس، لأن الحقوق بين الناس قائمة على التسامح والعفو فلذا يقدم حق الله، أما في ذكر حقوق المعاهدين فتقدم الديات أولا على حق الله، ترغيبا لهم، وحفاظا على مكانة المسلمين حتى لا يكون للمعاهدين عليهم منة وفضل، لأنه لا مكان لطلب العفو منهم لما في ذلك من مس لعزة وكرامة المؤمنين.

وانفرد الشيخ بهذا الاستنباط البديع، فلم أجد من المفسرين من ذكر ذلك.

قال القرطبي: " (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق) هذا في الذمي والمعاهد يقتل خطأ فتجب الدية والكفارة، قاله ابن عباس والشعبي والنخعي والشافعي. واختاره الطبري قال: إلا أن الله سبحانه وتعالى أبهمه ولم يقل وهو مؤمن، كما قال في القتيل من المؤمنين ومن أهل الحرب، وإطلاقه ما قيد قبل يدل على أنه خلافه" (٢). ومثله النسفي (٣).

وقال أبو حيان: "وقيد في الجملة الثانية بكونه من قوم معاهدين، والمعنى في النسب لا في الدين، لأنه مؤمن وهم كفار. فإذا تقيدت هاتان الجملتان دل ذلك على تقييد الأولى بأن يكون من المؤمنين في النسب، وهي من قتل مؤمنا خطأ كأنه قال: وأهله مؤمنون لا حربيون ولا معاهدون. ولا يمكن حمله على الإطلاق للتعارض والتعاند الذي بينه وبين الآيتين بعد" (٤).


(١) تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) (٥/ ٢٧٣).
(٢) الجامع لأحكام القرآن (٥/ ٣٢٥).
(٣) مدارك التنزيل وحقائق التأويل (١/ ٣٨٥).
(٤) البحر المحيط في التفسير (٤/ ٢٦).

<<  <   >  >>