للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[[مدافعة أهل الحق للباطل والفساد رحمة من الله لهم وللعباد]]

قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (٢٠٧)} [سورة البقرة: ٢٠٧]

٣٦. قال الشيخ محمد رشيد -رحمه الله-: "فالقرآن يصور المؤمنين عاملين بمقتضى الإيمان، ثم بين أنه ما شرع هذا إلا رأفة بعباده فقال: (وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ)، إذ يرفع همم بعضهم ويعلي نفوسهم حتى يبذلوها في سبيله، لدفع الشر والفساد عن عباده وتقرير الحق والعدل والخير فيهم، ولولا ذلك لغلب شر أولئك المفسدين في الأرض حتى لا يبقى فيها صلاح (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) [سورة البقرة: ٢٥١]، وإن هذا يؤيد ما قلناه في إزالة وهم من يتوهم أن بيع النفس يؤذن بترك الدنيا، وألا يمتع المؤمن نفسه بلذاتها، ولو كان كذلك -وهو من تكليف ما لا يطاق- لما قرنه الله تعالى باسمه الرءوف الدال على سعة رحمته بعباده، فيالله ما أعجب بلاغة كلام الله، وما أعظم خذلان المعرضين عن هداه، ومن الدقة الغريبة في هذا التعبير الموجز بيان حقيقة عظيمة وهي أن وجود هذه الأمة في الناس رحمة عامة للعباد لا خاصة بهم" (١).

[الدراسة]

استنبط الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله- استنباطا عقديا، في باب السنن، في مسألة مدافعة أهل الحق للباطل والفساد رحمة من الله لهم وللعباد، بدلالة الاقتران.

وجه الاستنباط: من باعوا أنفسهم لله، وكانت حياتهم موافقة لمقتضى الإيمان، فإن حياتهم في نفسها لذة، وإن كان في ظاهرها ألم ونصب، وخلافا للتوهّم بأن ذلك ترك لملذات الدنيا، وسعادة قلوبهم بالرضا والشعور برأفة الله بهم أعظم سعادة، بل إنه لم تقتصر رحمة الله عليهم فقط، فإنهم ممن ينتفع الناس بهم، ويكونون رحمة عامة للعباد، وبوجودهم يدفع الله الشر والفساد عن الخلق، ويقرر الحق والعدل والخير فيهم، مصداقا لقول الله عز وجل: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ).

قال ابن عاشور: "رؤوف بالعباد الصالحين الذين منهم من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، فالرأفة كناية عن لازمها وهو إيتاء الخيرات كالرحمة" (٢).

قال الشيخ ابن سعدي: "هؤلاء هم الموفقون الذين باعوا أنفسهم وأرخصوها وبذلوها طلبا لمرضاة الله ورجاء لثوابه، فهم بذلوا الثمن للمليء الوفيّ الرءوف بالعباد، الذي من رأفته ورحمته أن وفقهم لذلك، وقد وعد الوفاء بذلك، فقال: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} إلى آخر الآية، وفي هذه الآية أخبر أنهم اشتروا أنفسهم وبذلوها، وأخبر برأفته الموجبة لتحصيل ما طلبوا، وبذل ما به رغبوا، فلا تسأل بعد هذا عن ما يحصل لهم من الكريم، وما ينالهم من الفوز والتكريم" (٣).


(١) تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) (٢/ ٢٠٤).
(٢) التحرير والتنوير (٢/ ٢٥٧).
(٣) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (١/ ٩٤).

<<  <   >  >>