للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[[رحمة الله تسبق غضبه]]

قال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦)} [سورة آل عمران: ١٠٦]

١١. قال الشيخ محمد رشيد -رحمه الله-: "ومن مباحث اللفظ والنظم في الآيات أنه جعل النشر في آية يوم تبيض وجوه إلخ، على غير ترتيب اللف إذ ذكر في اللف الابيضاض قبل الاسوداد، وذكر في النشر حكم من اسودت وجوههم قبل حكم من ابيضت وجوههم، وليس اللف والنشر يسمونه المرتب أبلغ مما يسمونه المشوش" (١).

[الدراسة]

استنبط الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله- استنباطا عقديا، في باب الأسماء والصفات، في مسألة رحمة الله سبقت غضبه، بدلالة التقديم والتأخير.

وجه الاستنباط: ابتدأت الآية بلفظ البياض، وختمت بوصف لأهل هذا البياض تشريفا وإتماما للنعمة لأهل الإيمان، وهذا الأسلوب من أساليب البلاغة الفصيحة، ذلك أن الكلام الفصيح ينبغي أن يتفق مطلعه مع خاتمته بما يكون فيه سرور وانشراح، وفي هذه الآية وضحت البلاغة في أعلى مراتبها، فكان هذا الأسلوب بيان لرحمة الله التي سبقت غضبه، وبينت المكانة العظيمة لأهل الإيمان بالله وكتبه.

وقد أشار بعض أهل التفسير إلى هذا، ومنهم الرازي، حيث قال: "وفي الآية سؤالات: السؤال الأول: أنه تعالى ذكر القسمين أولا فقال: يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فقدم البياض على السواد في اللفظ، ثم لما شرع في حكم هذين القسمين قدم حكم السواد، وكان حق الترتيب أن يقدم حكم البياض. والجواب عنه من وجوه:

أحدها: أن الواو للجمع المطلق لا للترتيب.

وثانيها: أن المقصود من الخلق إيصال الرحمة لا إيصال العذاب، قال عليه الصلاة والسلام حاكيا عن رب العزة سبحانه: «خلقتهم ليربحوا علي لا لأربح عليهم»، وإذا كان كذلك فهو تعالى ابتدأ بذكر أهل الثواب وهم أهل البياض، لأن تقديم الأشرف على الأخس في الذكر أحسن، ثم ختم بذكرهم أيضا تنبيها على أن إرادة الرحمة أكثر من إرادة الغضب كما قال: «سبقت رحمتي غضبي»

وثالثها: أن الفصحاء والشعراء قالوا: يجب أن يكون مطلع الكلام ومقطعه شيئا يسر الطبع ويشرح الصدر ولا شك أن ذكر رحمة الله هو الذي يكون كذلك فلا جرم وقع الابتداء بذكر أهل الثواب والاختتام بذكرهم" (٢).

وقال أبو حيان: " وبدأ بالبياض لشرفه، وأنه الحالة المثلى. وأسند الابيضاض والاسوداد إلى الوجوه وإن كان جميع الجسد أبيض أو أسود، لأن الوجه أول ما يلقاك من الشخص وتراه، وهو أشرف أعضائه" (٣).

وقال ابن عاشور: " وقوله تعالى: فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم تفصيل للإجمال السابق، سلك فيه طريق النشر المعكوس، وفيه إيجاز لأن أصل الكلام، فأما الذين اسودت وجوههم فهم الكافرون يقال لهم أكفرتم إلى آخر: وأما الذين ابيضت وجوههم فهم المؤمنون وفي رحمة الله هم فيها خالدون، قدم عند وصف اليوم ذكر البياض، الذي هو شعار أهل النعيم، تشريفا لذلك اليوم بأنه يوم ظهور رحمة الله ونعمته، ولأن رحمة الله سبقت غضبه، ولأن في ذكر سمة أهل النعيم، عقب وعيد بالعذاب، حسرة عليهم، إذ يعلم السامع أن لهم عذابا عظيما في يوم فيه نعيم عظيم، ثم قدم في التفصيل ذكر سمة أهل العذاب تعجيلا بمساءتهم" (٤).


(١) تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) (٤/ ٤٦).
(٢) مفاتيح الغيب (٨/ ٣١٩).
(٣) البحر المحيط (٣/ ٢٩٢).
(٤) التحرير والتنوير (٤/ ٤٤).

<<  <   >  >>