للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

٥٩. قال الشيخ محمد رشيد -رحمه الله-: "إن في جعل عدم وجدان الكاتب مقيدا بحال السفر إشارة إلى أنه ليس من شأن مواطن الإقامة أن تكون خلوا من الكتاب، والكتابة مفروضة على المؤمنين، والإيمان لا يتحقق إلا بالإذعان والعمل، وناهيك بالفريضة إذا أكدت كالكتابة حينئذ يقطع بأن المؤمنين لا بد أن يأتوها، بل لا يفرض أن يخالفوها وألا يوجد الكتاب عندهم إلا حيث يمكن أن يكونوا معذورين كما يكون في السفر، وهذا مفهوم من العبارة بالإشارة وهو من أدق أساليب البلاغة" (١).

[الدراسة]

استنبط الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله- استنباطا فقهيا، في باب حفظ الحقوق والأموال، في مسألة العذر في وجوب كتابة الدين في السفر وبديله، بدلالة الإشارة.

وجه الاستنباط: في الآية إشارة إلى احتمال عدم وجود كاتب، والتقييد بحال السفر يفهم منه وجوب الكتابة في حال الإقامة وأنها مفروضة على المؤمنين، ومن هنا فإن من لم يلتزم بها في حال الإقامة ولم يذعن إلى أمر الله فقد استحق الإثم، ثم أعقب ذلك بذكر السفر، وأنه أقوى الأعذار المانعة من الكتابة، وجعل الرهن بدلا عنها.

قال القرطبي: "لما ذكر الله تعالى الندب إلى الإشهاد والكتب لمصلحة حفظ الأموال والأديان، عقب ذلك بذكر حال الأعذار المانعة من الكتب، وجعل لها الرهن، ونص من أحوال العذر على السفر الذي هو غالب الأعذار، لا سيما في ذلك الوقت لكثرة الغزو، ويدخل في ذلك بالمعنى كل عذر، فرب وقت يتعذر فيه الكاتب في الحضر كأوقات أشغال الناس وبالليل، وأيضا فالخوف على خراب ذمة الغريم عذر يوجب طلب الرهن، وقد رهن النبي -صلى الله عليه وسلم- درعه عند يهودي طلب منه سلف الشعير، فقال: إنما يريد محمد أن يذهب بمالي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كذب، إني لأمين في الأرض أمين في السماء ولو ائتمنني لأديت، اذهبوا إليه بدرعي) فمات ودرعه مرهونة -صلى الله عليه وسلم- " (٢).

قال أبو السعود: "وليس هذا التعليقُ لاشتراط السفر في شرعية الارتهان كما حسِبه مجاهدٌ والضحاكُ، لأنه -صلى الله عليه وسلم-، رهَن دِرْعه في المدينة من يهودي بعشرين صاعاً من شعير أخذه لأهله، بل لإقامة التوثقِ بالارتهان مُقام التوثق بالكتابة في السفر الذي هو مِظنةُ إعوازِها وإنما لم يتعرّض لحال الشاهد لما أنه في حكم الكاتب توثقاً وإعوازاً" (٣).


(١) تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) (٣/ ١٠٩)
(٢) الجامع لأحكام القرآن (٣/ ٤٠٦ - ٤٠٧).
(٣) إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (١/ ٣٣٧).

<<  <   >  >>