للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[الدراسة]

استنبط الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله- استنباطا عقديا، في باب توحيد الربوبية، في مسألة من عدل الله في عباده تزيين أفعالهم لهم التي استحسنوها وجرت عادتهم عليها، بدلالة معنى اللفظ.

وجه الاستنباط: أن في لفظ التزيين تنبيه وأثر وبيان ونتيجة لما استحسنه هؤلاء، فكان نتيجة لأعمالهم الاختيارية، وليس فرضا ابتدائيا من الله على البشر، وقد مضت سنة الله في أخلاق البشر وشئونهم أن يستحسنوا ما يجرون عليه ويتعودونه مما كان عليه آباؤهم، أو مما استحدثوه بأنفسهم، إذا صار يسند وينسب إليهم، سواء كانوا على تقليد وجهل، أم على بينة وعلم، وفي هذا رد على الجبرية القائلين بأن الله خلق في قلوب هؤلاء الكفر ومنعهم من الإيمان.

قال ابن جرير: "يقول تعالى ذكره: كما زيّنا لهؤلاء العادلين بربهم الأوثَانَ والأصنام، عبادةَ الأوثان وطاعةَ الشيطان بخذلاننا إيّاهم عن طاعة الرحمن، كذلك زيَّنا لكل جماعةٍ اجتمعت على عملٍ من الأعمال من طاعة الله ومعصيته، عملَهم الذي هم عليه مجتمعون" (١).

قال ابن عطية: "قوله تعالى: (كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ) إشارة إلى ما زين الله لهؤلاء عبدة الأصنام من التمسك بأصنامهم والذب عنها وتزيين الله عمل الأمم هو ما يخلقه ويخترعه في النفوس من المحبة للخير والشر والاتباع لطرقه، وتزيين الشيطان هو بما يقذفه في النفوس من الوسوسة وخطرات السوء" (٢).

قال الشوكاني: "كذلك زينا لكل أمة عملهم أي مثل ذلك التزيين زينا لكل أمة من أمم الكفار عملهم من الخير والشر يضل من يشاء ويهدي من يشاء، ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون في الدنيا من المعاصي التي لم ينتهوا عنها، ولا قبلوا من المرسلين ما أرسلهم الله به إليهم، وما تضمنته كتبه المنزلة عليهم" (٣).

قال ابن عاشور: "وحقيقة تزيين الله لهم ذلك أنه خلقهم بعقول يحسن لديها مثل ذلك الفعل، على نحو ما تقدم في قوله تعالى: (ولو شاء الله ما أشركوا) [الأنعام: ١٠٨]، وذلك هو القانون في نظائره، والتزيين تفعيل من الزين، وهو الحسن أو من الزينة، وهي ما يتحسن به الشيء، فالتزيين جعل الشيء ذا زينة أو إظهاره زينا أو نسبته إلى الزين، وهو هنا بمعنى إظهاره في صورة الزين وإن لم يكن كذلك، فالتفعيل فيه للنسبة مثل التفسيق، وفي قوله: (ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم) [الحجرات: ٧] بمعنى جعله زينا، فالتفعيل للجعل لأنه حسن في ذاته" (٤).


(١) جامع البيان في تأويل آي القرآن، ت شاكر (١٢/ ٣٧).
(٢) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (٢/ ٣٣٢).
(٣) فتح القدير (٢/ ١٧٢).
(٤) التحرير والتنوير (٧/ ٤٣٣).

<<  <   >  >>