للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[الدراسة]

استنبط الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله- استنباطا عقديا، في باب السنن الإلهية، في مسألة تجديد الدين بإنشاء وتعاقب الأجيال في الأمم، بدلالة الإشارة.

وجه الاستنباط: من عاش في مهد الاستبداد والظلم والاضطهاد تفسد أخلاقه وتصير كالموروثات المكتسبة والغرائز الفطرية وعليه يصعب انتزاعها، ولما علم الله من نفوس هؤلاء عدم طاعة أمر الله، وأن ما وعد الله لن يتحقق إلا بفناء هذا الجيل وإيجاد جيل جديد، وفق سنة الله في الاجتماع البشري، يعيد صلاح الأمة بحرية واستقلال وعزة قائمة على معرفة الشريعة والعمل بفضائلها، ولذا منع الله عليهم دخول هذه القرية، وجعلهم في تيه حتى ماتوا جميعا، أما أبناؤهم فهم الذين تسلموا الراية وقاتلوا كما أمر الله ودخلوا تلك القرية.

وهو استنباط عميق بنى عليه علم الاجتماع قواعده وأسسه في دراسة المجتمعات وتغير الأجيال، فقد دلت لفظة (فإنها محرمة) على الحكمة من العذاب.

وقد أشار بعض المفسرين إلى بيان معنى التحريم هل هو عام للجميع، أم أن أبناءهم مستثنون من هذا، ولم يوضحوا سبب هذا الفناء: أن التحريم ليس تعبديا وإنما هو تحريم منع، لهؤلاء الأباء، أما أبناؤهم الذين لم يعملوا الشر فسيدخلون تلك القرية (١)

قال البغوي: "ومات في التيه كل من دخلها ممن جاوز عشرين سنة غير يوشع وكالب، ولم يدخل أريحا أحد ممن قالوا: إنا لن ندخلها أبدا فلما هلكوا وانقضت الأربعون سنة، ونشأت النواشئ من ذراريهم ساروا إلى حرب الجبارين" (٢)، ومثله الزمخشري وابن عطية (٣).

وأشار ابن سعدي للحكمة التي أوردها الشيخ محمد رشيد رضا، فقال: "ولعل الحكمة في هذه المدة أن يموت أكثر هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة، الصادرة عن قلوب لا صبر فيها ولا ثبات، بل قد ألفت الاستعباد لعدوها، ولم تكن لها همم ترقيها إلى ما فيه ارتقاؤها وعلوها، ولتظهر ناشئة جديدة تتربى عقولهم على طلب قهر الأعداء، وعدم الاستعباد، والذل المانع من السعادة" (٤)، ومثله الدوسري والهرري (٥).

وقد حمل كلام ابن خلدون تأصيلا واضحا لاستنباط الشيخ هنا، فقد قال: "ويظهر من مساق الآية ومفهومها أن حكمة ذلك التيه مقصودة وهي فناء الجيل الذين خرجوا من قبضة الذل والقهر والقوة، وتخلقوا به وأفسدوا من عصبيتهم حتى نشأ في ذلك التيه جيل آخر عزيز لا يعرف الأحكام والقهر ولا يسام بالمذلة، فنشأت لهم ذلك عصبية أخرى اقتدروا بها على المطالبة والتغلب، ويظهر لك من ذلك أن الأربعين سنة أقل ما يأتي فيها فناء جيل ونشأة جيل آخر، سبحان الحكيم العليم" (٦).


(١) انظر: تفسير معالم التنزيل في تفسير القرآن (٢/ ٣٥)، المحرر الوجيز (٢/ ١٧٦)، مفاتيح الغيب (١١/ ٣٣٦)، أنوار التنزيل في تفسير القرآن (٢/ ١٢٢)، الجامع لأحكام القرآن (٦/ ١٢٩).
(٢) معالم التنزيل في تفسير القرآن (٢/ ٣٥).
(٣) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (١/ ٦٢٢)، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (٢/ ١٧٦).
(٤) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (١/ ٢٢٨).
(٥) صفوة الآثار والمفاهيم (٨/ ٣٧٠)، حدائق الروح (٧/ ٢١١).
(٦) في مقدمته (الفصل التاسع عشر ١٣٤).

<<  <   >  >>