للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[الدراسة]

استنبط الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله- استنباطا عقديا، في باب توحيد الربوبية، في مسألة الخير الكثير في اقتران العقل بالعلم، بدلالة الاقتران.

وجه الاستنباط: الحكمة إذا قرنت بالعلم الصحيح أثمرت الخير والإصابة في الأقوال والأعمال وإنزال الأمور منازلها التي تستحقها، وفي هذا ترغيب إلى إعمال العقول واستخدامها فيما ينفع، ولا يكون ذلك إلا عن فهم وعلم ومعرفة، وهذا جارٍ على سنة الله في خلقه، فإنه لا يتعظ بالعلم ويتأثر به ويكوّن سلوكه في كل حالاته، إلا من كان عقله خالصا من الشوائب، وقلبه سليما من المعايب.

قال ابن جرير: "إن الإصابة في الأمور إنما تكون عن فهم بها وعلم ومعرفة، وإذا كان ذلك كذلك كان المصيب عن فهم منه بمواضع الصواب في أموره فهما خاشيا لله فقيها عالما، وكانت النبوة من أقسامه؛ لأن الأنبياء مسددون مفهمون، وموفقون لإصابة الصواب في بعض الأمور، والنبوة بعض معاني الحكمة" (١).

قال القرطبي: "الحكمة مصدر من الأحكام وهو الإتقان في قول أو فعل، فكل ما ذكر فهو نوع من الحكمة التي هي الجنس، فكتاب الله حكمة، وسنة نبيه حكمة، وكل ما ذكر من التفضيل فهو حكمة، وأصل الحكمة ما يمتنع به من السفه، فقيل للعلم حكمة، لأنه يمتنع به، وبه يعلم الامتناع من السفه وهو كل فعل قبيح، وكذا القرآن والعقل والفهم، وفى البخاري: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وقال هنا: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} " (٢).

قال ابن سعدي: "فكمال العبد متوقف على الحكمة، إذ كماله بتكميل قوتيه العلمية والعملية فتكميل قوته العلمية بمعرفة الحق ومعرفة المقصود به، وتكميل قوته العملية بالعمل بالخير وترك الشر، وبذلك يتمكن من الإصابة بالقول والعمل وتنزيل الأمور منازلها في نفسه وفي غيره، وبدون ذلك لا يمكنه ذلك" (٣).

وقال ابن عاشور: "ومن يشاء الله تعالى إيتاءه الحكمة هو الذي يخلقه مستعدا إلى ذلك، من سلامة عقله واعتدال قواه، حتى يكون قابلا لفهم الحقائق منقادا إلى الحق إذا لاح له، لا يصده عن ذلك هوى ولا عصبية ولا مكابرة ولا أنفة، ثم ييسر له ذلك من حضور الدعاة وسلامة البقعة من العتاة فإذا انضم إلى ذلك توجهه إلى الله بأن يزيد أسبابه تيسيرا ويمنع عنه ما يحجب الفهم فقد كمل له التيسير، وفسرت الحكمة بأنها معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه بما تبلغه الطاقة، أي بحيث لا تلتبس الحقائق المتشابهة بعضها مع بعض ولا يغلط في العلل والأسباب" (٤).


(١) جامع البيان في تأويل آي القرآن (٥/ ١٢).
(٢) الجامع لأحكام القرآن (٣/ ٣٣٠).
(٣) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (١/ ١١٥).
(٤) التحرير والتنوير (٢/ ٥٣١).

<<  <   >  >>