للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[[مغفرة الله وعفوه عن الخطأ في الاجتهاد]]

قال تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣)} [سورة البقرة: ١٧٣]

٢٦. قال الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله-: "ومن مباحث البلاغة في الآية أن ذكر (غَفُورٌ) له فيها نكتة دقيقة لا تظهر إلا لصاحب الذوق الصحيح في اللغة، فقد يقال: إن ذكر وصف الرحيم ينبئ بأن هذا التشريع والتخفيف بالرخصة من آثار الرحمة الإلهية، وأما الغفور فإنما يناسب أن يذكر في مقام العفو عن الزلات والتوبة عن السيئات، والجواب عن هذا أن ما ذكر في تحديد الاضطرار دقيق جدا، ومرجعه إلى اجتهاد المضطر، ويصعب على من خارت قواه من الجوع أن يعرف القدر الذي يمسك الرمق ويقي من الهلاك بالتدقيق وأن يقف عنده، والصادق الإيمان يخشى أن يقع في وصف الباغي والعادي بغير اختياره، فالله تعالى يبشره بأن الخطأ المتوقع في الاجتهاد في ذلك مغفور له ما لم يتعمد تجاوز الحدود، والله أعلم" (١).

[الدراسة]

استنبط الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله- استنباطا لغويا بلاغيا، في مسألة الفاصلة القرآنية وعلاقتها بالآية، في مسألة مغفرة الله وعفوه عن الخطأ في الاجتهاد، بدلالة الاقتران.

وجه الاستنباط: هنا نكتة بلاغية في ختم الآية بوصف الغفور في مقام لا يستوجب الإنابة والتوبة من الزلل، وإنما هو في العفو عن الخطأ المتوقع في الاجتهاد في تحديد حالة الاضطرار، وإن من رحمة الله أن فرق بين الخطأ الناتج عن اجتهاد واضطرار، والخطأ المتعمد لتجاوز ما أذن الله به، وهذا ما يتناسب مع لفظة الغفور في هذا المقام، فإن هذا الخطأ مغفور بقدر هذه الحالة.

قال ابن عاشور: "إن هذا التذييل قصد به الامتنان، أي إن الله موصوف بهذين الوصفين فلا جرم أن يغفر للمضطر أكل الميتة لأنه رحيم بالناس، فالمغفرة هنا بمعنى التجاوز عما تمكن المؤاخذة عليه لا بمعنى تجاوز الذنب، ونحوه قوله صلى الله عليه وسلم في رؤيا القليب: "وفي نزعه ضعف والله يغفر له ومعنى الآية: أن رفع الإثم عن المضطر حكم يناسب من اتصف بالمغفرة والرحمة" (٢)، وممن قال بهذا البغوي، والشوكاني (٣).


(١) تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) (٢/ ٨١)
(٢) التحرير والتنوير (٢/ ١٢١).
(٣) تفسيرالبغوي (١/ ٩٨)، فتح القدير (١/ ١٩٧).

<<  <   >  >>