للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[الدراسة]

استنبط الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله- استنباطا عقديا، في باب العلم، في مسألة وجوب العلم وعلو شأن أهله في كل الميادين، بدلالة المفهوم.

وجه الاستنباط: اصطفاء الله للمؤمنين وجعلهم أفقه في كل فن ومجال يتعلق بحياتهم، وحرمان الكفار من هذا العلم هو السبب في كون المائة منهم دون العشرة من المؤمنين الصابرين، ولذا كان ما وصل إليه حال المؤمنين في القرون الأولى إنما كان بسبب هداية دينهم، وأنهم عندما فسدوا وتركوا الهداية زال عنهم ذلك المجد والسؤدد.

وذكر ابن جرير معنى عام للتفقه فقال: (بأنهم قوم لا يفقهون)، يقول: من أجل أن المشركين قوم يقاتلون على غير رجاء ثواب، ولا لطلب أجر ولا احتساب، لأنهم لم يفقهوا أن الله مُوجبٌ لمن قاتل احتسابًا، وطلب موعود الله في الميعاد، ما وعد المجاهدين في سبيله، فهم لا يثبتون إذا صدقوا في اللقاء، خشية أن يُقتلوا فتذهب دنياهم (١)، ومثله البغوي (٢).

وقال الزمخشري: "ثم قال بأنهم قوم لا يفقهون أى بسبب أن الكفار قوم جهلة يقاتلون على غير احتساب وطلب ثواب كالبهائم، فيقل ثباتهم ويعدمون لجهلهم بالله نصرته ويستحقون خذلانه، خلاف من يقاتل على بصيرة ومعه ما يستوجب به النصر والإظهار من الله تعالى" (٣)، وبنحوه قال البيضاوي، والنسفي، وأبو حيان، والألوسي، وأبو السعود، وابن سعدي (٤).

وقال ابن عطية: "قوله لا يَفْقَهُونَ معناه لا يفهمون مراشدهم ولا مقصد قتالهم لا يريدون به إلا الغلبة الدنياوية، فهم يخافون إذا صبر لهم، ومن يقاتل ليغلب أو يستشهد فيصير إلى الجنة أثبت قدما لا محالة" (٥).

وقال الرازي: "وهناك وجه لا يعرفه إلا أصحاب الرياضات والمكاشفات، وهو أن كل قلب اختص بالعلم والمعرفة كان صاحبه مهيبا عند الخلق، ولذلك إذا حضر الرجل العالم عند عالم من الناس الأقوياء الجهال الأشداء، فإن أولئك الأقوياء الأشداء الجهال يهابون ذلك العالم ويحترمونه ويخدمونه، بل نقول: إن السباع القوية إذا رأت الآدمي هابته وانحرفت عنه، وما ذاك إلا أن الآدمي بسبب ما فيه من نور العقل يكون مهيبا، وأيضا الرجل الحكيم إذا استولى على قلبه نور معرفة الله تعالى، فإنه تقوى أعضاؤه وتشتد جوارحه، وربما قوي عند ظهور التجلي في قلبه على أعمال يعجز عنها قبل ذلك الوقت، إذا عرفت هذا فالمؤمن إذا أقدم على الجهاد فكأنه بذل نفسه وماله في طلب رضوان الله" (٦).


(١) جامع البيان في تأويل آي القرآن، ت شاكر (١٤/ ٥١).
(٢) معالم التنزيل في تفسير القرآن (٣/ ٣٧٥).
(٣) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (٢/ ٢٣٥).
(٤) أنوار التنزيل وأسرار التأويل (٣/ ٦٦)، مدارك التنزيل وحقائق التأويل (١/ ٦٥٥)، البحر المحيط في التفسير (٥/ ٣٥٠)، الألوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني (٥/ ٢٢٧)، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (٤/ ٣٤)، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: ٣٢٦).
(٥) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (٢/ ٥٥١).
(٦) مفاتيح الغيب (١٥/ ٥٠٥).

<<  <   >  >>