للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[[علاقة الأعمال والأحوال بمكنونات القلوب]]

قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (٢٠٤)} [سورة البقرة: ٢٠٤]

٣٣. قال الشيخ محمد رشيد -رحمه الله-: "ولما كان محل التقوى ومنزلها القلوب دون الألسنة، وكان الشاهد والدليل على ما في القلوب الأعمال دون مجرد الأقوال، ذكر في هذه الآيات أن الناس في دلالة أعمالهم على حقائق أحوالهم ومكنونات قلوبهم قسمان، فكانت هذه متصلة بتلك في بيان مقصد القرآن العزيز وهو إصلاح القلوب، واختلاف أحوال الناس فيها، وما ينبغي أن يعلموه منها، ولذلك عطفها عليها" (١).

[الدراسة]

استنبط الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله- استنباطا لغويا، في باب العطف، في مسألة علاقة الأعمال والأحوال بمكنونات القلوب، بدلالة السياق.

وجه الاستنباط: أن العطف أفاد التناسب بين هذه الآية وما قبلها من آيات الحج، حيث كانت خاتمتها حاثة على التقوى، فجاءت هذه الآية بالدليل والشاهد على ما في القلوب من التقوى، وفضح من كانت أقوالهم تخالف ما في قلوبهم، وأفعال العباد هي ترجمان لما في قلوبهم، فكانت فاضحة للمنافقين ومبينة لصدق الصادقين.

قال الرازي: "اعلم أنه تعالى لما بين أن الذين يشهدون مشاعر الحج فريقان: كافر وهو الذي يقول: (ربنا آتنا في الدنيا) ومسلم وهو الذي يقول: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة) بقي المنافق، فذكره في هذه الآية، وشرح صفاته وأفعاله" (٢) ومثله أبو حيان، وابن كثير، والقرطبي، وابن سعدي (٣) وغيرهم.

وقال أبو السعود: "تجريد للخطاب وتوجيه له إليه عليه الصلاة والسلام وهو كلام مبتدأ سيق لبيان تحزب الناس في شأن التقوى إلى حزبين وتعيين مآل كل منهما ومن موصولة أو موصوفة وإعرابه كما بين في قوله تعالى ومن الناس من يقول آمنا بالله واليوم الاخر أي ومنهم من يروقك كلامه ويعظم موقعه في نفسك لما تشاهد فيه من ملاءمة الفحوى ولطف الأداء والتعجب حيرة تعرض للإنسان بسبب عدم الشعور بسبب ما يتعجب منه" (٤).

وقال ابن عاشور: "عطف على جملة {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا} [البقرة: ٢٠٠] الخ، لأنه ذكر هنالك حال المشركين الصرحاء الذين لا حظ لهم في الآخرة، وقابل ذكرهم بذكر المؤمنين الذين لهم رغبة في الحسنة في الدنيا الآخرة، فانتقل هنا إلى حال فريق آخرين ممن لا حظ لهم في الآخرة وهم متظاهرون بأنهم راغبون فيها، مع مقابلة حالهم بحال المؤمنين الخالصين الذين يؤثرون الآخرة والحياة الأبدية على الحياة الدنيا" (٥).


(١) تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) (٢/ ١٩٦).
(٢) مفاتيح الغيب (٥/ ٣٥٢)
(٣) البحر المحيط في التفسير (٢/ ٣٢٥)، تفسير القرآن العظيم (١/ ٥٦٢)، الجامع لأحكام القرآن (٣/ ١٤)، تفسير السعدي (١/ ٩٤).
(٤) إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (١/ ٢١٠).
(٥) التحرير والتنوير (٢/ ٢٤٨).

<<  <   >  >>