للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[النكاح سنة الله وفطرته في خلقه من الناس] قال تعالى (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩)) [سورة آل عمران ٣٩] قال الشيخ محمد رشيد -رحمه الله- قال الرازي احتج أصحابنا بهذه الآية على أن ترك النكاح أفضل، ونقول إن الآية ليست نصا ولا ظاهرة في ذلك، وإذا سلمنا أنها تدل عليه فلا نسلم أنها تدل على أن ترك التزوج أفضل مطلقا، وليس يحيى بأفضل من أبيه ولا من إبراهيم الخليل ولا من محمد خاتم النبيين والمرسلين، وسنة النكاح أفضل سنن الفطرة لأنها قوام هذه الحياة الدنيا، وسبب بقاء الإنسان الذي كرمه الله وخلقه في أحسن تقويم وجعله خليفة في الأرض إلى الأجل المسمى في علم الله (١). الدراسة استنبط الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله- استنباطا عقديا، في باب السنن، في مسألة النكاح سنة الله وفطرته في خلقه من الناس، بمفهوم المخالفة. وجه الاستنباط الآية لم تتطرق لحكم النكاح وليس فيها تصريح أو تنصيص على فعله أو المنع منه، وإنما هذه صفة اختص الله بها نبيه يحيي -عليه السلام-، عن باقي الأنبياء، وإنما هي كفاية من الله ليحيى، فامتناعه عن وطء النساء كان تبتلا لله وعفة وزهدا إذ ليس في قلبه شهوة لهن، وليس فيها انتقاص أو إلحاق أذى به -عليه السلام-، والنكاح سنة الله في خلقه، وفطرة فطر الناس عليها، وفعلها الأنبياء من قبله ومن بعده، وهو شريعة ثابتة، تدور أحكامه بين الوجوب والاستحباب. وقد أجمع المفسرون على أن المقصود من الحصر هنا ليس لعجز بل هو امتناع عن الشهوات والملهيات للعفة والزهد (٢). وتنوعت عباراتهم في بيان المعنى المراد فقال ابن كثير قيل ليست له شهوة في النساء، وقد بان لك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص، وإنما الفضل في كونها موجودة ثم قمعها إما بمجاهدة كعيسى أو بكفاية من الله عز وجل، كيحيى عليه السلام، ثم هي حق من أقدر عليها وقام بالواجب فيها ولم تشغله عن ربه درجة علياء، وهي درجة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- (٣). وقال البغوي الحصور بمعنى المحصور، يعني الممنوع من النساء، قال سعيد بن المسيب كان له مثل هدبة الثوب، وقد تزوج مع ذلك ليكون أغض لبصره، وفيه قول آخر إن الحصور الممتنع من الوطء مع القدرة عليه، واختار قوم هذا القول لوجهين، أحدهما لأن الكلام خرج مخرج الثناء، وهذا أقرب إلى استحقاق الثناء، والثاني أنه أبعد من إلحاق الآفة بالأنبياء (٤)، ومثله القرطبي (٥). ومما تقدم لم نجد من أشار لاستنباط الشيخ محمد رشيد إلا عبارة أبي حيان حيث قال وقد استدل بقوله وحصورا من ذهب إلى أن التبتل لنوافل العبادات أفضل من الاشتغال بالنكاح، وهو مذهب الجمهور خلافا لمذهب أبي حنيفة، فإنه بالعكس (٦). وقال ابن عاشور ذكر هذه الصفة في أثناء صفات المدح إما أن يكون مدحا له، لما تستلزمه هذه الصفة من البعد عن الشهوات المحرمة، بأصل الخلقة، ولعل ذلك لمراعاة براءته مما يلصقه أهل البهتان ببعض أهل الزهد من التهم، وقد كان اليهود في عصره في أشد البهتان والاختلاق، وإما ألا يكون المقصود بذكر هذه الصفة مدحا له لأن من هو أفضل من يحيى من الأنبياء والرسل كانوا مستكملين المقدرة على قربان النساء فتعين أن يكون ذكر هذه الصفة ليحيى إعلاما لزكرياء بأن الله وهبه ولدا إجابة لدعوته (٧).


(١) تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) (٣/ ٢٤٥).
(٢) أنظر: جامع البيان في تأويل آي القرآن (٦/ ٣٧٦)، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (١/ ٣٦٠)، مفاتيح الغيب (٨/ ٢١٢)، إرشارد العقل السليم لمزايا الكتاب العزيز (٢/ ٣٢)، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: ١٣٠).
(٣) تفسير القرآن العظيم، ت سلامة (٢/ ٣٨)
(٤) معالم التنزيل في تفسير القرآن (١/ ٤٣٧).
(٥) الجامع لأحكام القرآن (٤/ ٧٨).
(٦) البحر المحيط في التفسير (٣/ ١٣٤).
(٧) التحرير والتنوير (٣/ ٢٤١).

<<  <   >  >>