للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال أبو السعود: " {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} أي رجوعكم بالبعث وثم للتراخي وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ للقصرِ المفيدِ لتأكيد الوعدِ والوعيد والضمير لعيسى عليه الصلاة والسلام وغيرِه من المتبعين له والكافرين به على تغليبُ المخاطَب على الغائبِ في ضمن الالتفاتِ فإنه أبلغُ في التبشير والإنذار" (١).

وقال ابن عاشور: "والظاهر أن هذه الجملة مما خاطب الله به عيسى، وأن ضمير مرجعكم، وما معه من ضمائر المخاطبين، عائد إلى عيسى والذين اتبعوه والذين كفروا به، ويجوز أن يكون خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فتكون ثم للانتقال من غرض إلى غرض، زيادة على التراخي الرتبي والتراخي الزمني" (٢).

[[الفرق بين الإرادة والتكليف]]

قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩)} [سورة آل عمران: ٥٩]

٤. قال الشيخ محمد رشيد -رحمه الله-: "وخطر لي الآن أنه يجوز أن تكون كلمة التكوين مجموع كن فيكون، والمعنى: ثم قال له كلمة التكوين التي هي عبارة عن توجه الإرادة إلى الشيء ووجوده بها حالا، ويظهر هذا في مثل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ} [سورة الأنعام: ٧٣] ولو كان القول للتكليف لم يظهر هذا؛ لأن قول التكليف من صفة الكلام، وقول التكوين من صفة المشيئة، ولعل من تأمله حق التأمل لا يجد عنه منصرفا، والعطف بـ (ثم) لبيان التكوين الآخر يفيد تراخيه وتأخره عن الخلق الأول" (٣).

[الدراسة]

استنبط الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله- استنباطا عقديا، في باب توحيد الربوبية، في مسألة الفرق بين الإرادة والتكليف، بدلالة المفهوم والعطف.

وجه الاستنباط: دلت الآية على أن كلمة التكوين مجموع (كن فيكون)، وهي إرادة الله الكونية إلى الشيء ووجوده بها حالا، وليس للتكليف، ودلل على أن هذا القول ظاهر في قوله تعالى: {وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق}.

قال ابن جرير: "هو عام في كل ما قضاه الله وبرأه، لأن ظاهر ذلك ظاهر عموم، وغير جائزة إحالة الظاهر إلى الباطن من التأويل بغير برهان لما قد بينا في كتابنا: "كتاب البيان عن أصول الأحكام". وإذ كان ذلك كذلك، فأمر الله جل وعز لشيء إذا أراد تكوينه موجودا بقوله: (كن) في حال إرادته إياه مكوَّنا، لا يتقدم وجود الذي أراد إيجاده وتكوينه، إرادته إياه، ولا أمره بالكون والوجود، ولا يتأخر عنه، فغير جائز أن يكون الشيء مأمورا بالوجود مرادا كذلك إلا وهو موجود، ولا أن يكون موجودا إلا وهو مأمور بالوجود مراد كذلك" (٤).


(١) إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (٢/ ٤٤).
(٢) التحرير والتنوير (٣/ ٢٦٠).
(٣) تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) (٣/ ٢٦٣).
(٤) جامع البيان (٢/ ٥٤٧).

<<  <   >  >>