للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[تعبير القرآن بلفظة (خلق) عيسى رد على النصارى] قال تعالى (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧)) [سورة آل عمران ٤٧] قال الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله- وعبر هنا بالخلق وفي بشارة زكريا بيحيى بالفعل، وكل منهما خلق وفعل، لكن لفظ الفعل يستعمل كثيرا فيما يجري على قانون الأسباب المعروفة، ولفظ الخلق يستعمل في الإبداع والإيجاد ولو بغير ما يعرف من الأسباب (١). الدراسة استنبط الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله- استنباطا عقديا، في باب إعجاز القرآن، في مسألة تعبير القرآن بلفظة (خلق) عيسى رد على النصارى، بدلالة اختلاف اللفظ. وجه الاستنباط كل معنى أتى في الموضع المناسب له، فلفظ الخلق لعيسى لأن خلقته من غير أب تعد إيجاد ولا قانون لها فهو على غير المعهود في التوالد؛ لأنه من أم غير زوج في الظاهر، فكان بالأمور المبتدأة بمحض القدرة أشبه، والتعبير عنه بالخلق أليق، وفيه أيضا رد على شبهة النصارى بالتصريح بأنه مخلوق فيكون قطعا لهم. قال ابن كثير وصرح هاهنا بقوله (يخلق) ولم يقل يفعل كما في قصة زكريا، بل نص هاهنا على أنه يخلق؛ لئلا يبقى شبهة، وأكد ذلك بقوله (إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) أي فلا يتأخر شيئا، بل يوجد عقيب الأمر بلا مهلة، كقوله تعالى (وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر) [القمر ٥٠] أي إنما نأمر مرة واحدة لا مثنوية فيها، فيكون ذلك الشيء سريعا كلمح بالبصر (٢). قال البيضاوي (قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ) القائل جبريل، أو الله تعالى وجبريل حكى لها قول الله تعالى، إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، إشارة إلى أنه تعالى كما يقدر أن يخلق الأشياء مدرجاً بأسباب ومواد يقدر أن يخلقها دفعة من غير ذلك (٣). وقال أبو السعود (كذلك الله يَخْلُقُ مَا يَشَاء) الكلامُ في إعرابه كما مرَّ في قصَّةِ زكريا بعينه خلا أن إيراد يخلق ههنا مكانَ يفعلُ هناك لما أن ولادةَ العذراءِ من غير أن يمسَّها بشرٌ أبدعُ وأغربُ من ولادة عجوزٍ عاقرٍ من شيخ فان فكان الخلق المنبئ عن الاختراع أنسبَ بهذا المقام من مطلق الفعل ولذلك عقّب ببيان كيفيته فقيل (إِذَا قَضَى أَمْرًا) من الأمور أي أراد شيئاً (٤). ومثله ابن عثيمين حيث قال عُبر في قصة مريم بالخلق وفي قصة زكريا بالفعل (يفعل)، فهل هناك نكتة أو أنه اختلاف تعبير؟ الجواب أن هناك نكتة، وهي من وجهين الوجه الأول مما قاله العلماء وهو صحيح أن عيسى -عليه السلام- خلق من غير ما جرت العادة به، خلق على وجه لم تجر العادة بمثله إطلاقاً، فناسب التعبير بالخلق الدال على الإبداع، ولهذا يقال خلق الله السماوات، ولا يقال فعل الله السماوات، مع أن الخلق فعله لكن الخلق فيه نوع من الإبداع ولذلك قال (خلق). الوجه الثاني الرد على شبهة النصارى الذين يقولون إن عيسى هو الله، والله ثالث ثلاثة، فيكون فيه التصريح بأنه مخلوق، ويكون هذا قطعاً لدابر قولهم فيه، إذن نكتة كونية ونكتة شرعية يعني حكمة كونية شرعية (٥).


(١) تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) (٣/ ٢٥٣).
(٢) تفسير القرآن العظيم، ت سلامة (٢/ ٤٤).
(٣) أنوار التنزيل وأسرار التأويل (٢/ ١٧).
(٤) إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (٢/ ٣٧).
(٥) فوائد من تفسير سورتي آل عمران والنساء (١/ ٢٨٠).

<<  <   >  >>