للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقال الرازي: "دلت الآية على أن المؤاخذة بالذنب لا تحصل إلا بعد البيان وإزاحة العلة، فإذا علق الوعيد بشرط مجيء البينات وحصولها فبأن لا يجوز أن يحصل الوعيد لمن لا قدرة له على الفعل أصلا أولى، ولأن الدلالة لا ينتفع بها إلا أولوا القدرة، وقد ينتفع بالقدرة مع فقد الدلالة، وقال: دلت الآية على أن المعتبر حصول البينات لا حصول اليقين من المكلف فمن هذا الوجه دلت الآية على أن المتمكن من النظر والاستدلال يلحقه الوعيد كالعارف، فبطل قول من زعم أن لا حجة لله على من يعلم ويعرف" (١). ومثله ابن عاشور (٢).

قال القرطبي: "وفى الآية دليل على أن عقوبة العالم بالذنب أعظم من عقوبة الجاهل به، ومن لم تبلغه دعوة الإسلام لا يكون كافرا بترك الشرائع" (٣).

[[قبول الحق والعمل به توفيق وهداية من الله]]

قال تعالى: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩)} [سورة البقرة: ٢٠٩]

٣٩. قال الشيخ محمد رشيد -رحمه الله-: "وفي هذه من الهداية أيضا بيان أمر عظيم يغفل عنه العلماء والأذكياء، وهو أن الآيات والبينات إنما تفيد النفوس الخيرة المستعدة لقبول الحق المتوجهة إلى طلبه، وأما النفوس الخبيثة التي يفضحها الحق ويظهر باطلها الذي تحب ستره، والاسترسال فيما هي فيه من اللذة الحسية والجاه الباطل؛ فإن الآيات والبينات لا تزيدها إلا مماراة وجدلا في القول وجحودا وعنادا بالفعل. هذه سنة الله تعالى في البشر عامة، لا في بني إسرائيل خاصة" (٤).

[الدراسة]

استنبط الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله- استنباطا عقديا، في باب سنن الله عز وجل الإلهية، في مسألة قبول الحق والعمل به توفيق وهداية من الله عز وجل، بدلالة التضمن.

وجه الاستنباط: بينت الآية الفرق بين نفوس أهل الحق وأهل الباطل في قبول الحق، فأهل الحق دائماً نفوسهم مقبلة على الحق ومتوجهة إليه، أما أهل الباطل يضمرون الخبث في نفوسهم ولا ينتفعون بالهدايات المرسلة، ولا تزيدهم إلا عناداً وكفراً.

وقد ورد في نصوص الشريعة ما يشهد لهذا الاستنباط من الشيخ أن النفوس الصادقة والباحثة عن الحق يوفقها الله للهداية، وأن النفوس المستكبرة والمعرضة تحرم من هذه الهداية، كقوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [سورة الأنفال: ٢٣].


(١) مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (٥/ ٣٥٥).
(٢) التحرير والتنوير (٢/ ٢٨١).
(٣) الجامع لأحكام القرآن (٣/ ٢٤).
(٤) تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) (٢/ ٢١٥).

<<  <   >  >>