للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[الدراسة]

استنبط الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله- استنباطا عقديا، في باب الدعوة، في مسألة تحذير الله للمشركين من عظم كفرهم مع ضعف تمكينهم ونقص حالهم، بدلالة الاقتضاء ودلالة الألفاظ أيضا.

وجه الاستنباط: إيراد الفعلين بضمير الغيبة يوهم اتحاد مرجعمها، وكون المثبت عين المنفي، لكن الفرق يتضح في المعنى بين (مكنه، ومكن له)، فإن المعنى التام للتمكين يظهر في (مكن له)، وهذا إشارة لهؤلاء للعبرة بمن سبق، وكيف أن الله مكن لهم غاية التمكين، ومع ذلك لم ينفعهم هذا التمكين التام لما كذبوا رسله، فيصدقوا رسول الله محمدا وما جاء به، وأن هذا من باب تحذير الله للمشركين من عظم كفرهم وضعف تمكنهم وتمكينهم ونقص حالهم، وقد ذكر الشيخ أن هذا المعنى مما غفل عنه أهل التفسير.

وبعد استقراء كتب التفسير تبيّن عدم صحة اتهام الشيخ للمفسرين وأهل اللغة، حيث إن المفسرين ذكروا أن أسلوب الآية اختلف من الغيبة إلى الخطاب.

ومن ذلك، ما جاء في تفسير ابن جرير: "يقول تعالى ذكره لنبيه محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-: ألم يرَ هؤلاء المكذبون بآياتي، الجاحدون نبوّتك، كثرةَ من أهلكت من قبلهم من القُرون، وهم الأمم، الذين وطَّأت لهم البلادَ والأرض توطئة لم أوطِّئها لهم، وأعطيتهم فيها ما لم أعطهم، فإن قال قائل: فما وجهُ قوله: "مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم"، ومن المخاطب بذلك؟ فقد ابتدأ الخبر في أول الآية عن قوم غيب بقوله: "ألم يروا كم أهلكنا من قَبَلهم من قرن قيل: إن المخاطب بقوله: "ما لم نمكن لكم هو المخبر عنهم بقوله: "ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن ولكن في الخبر معنى القول ومعناه: قُلْ، يا محمد، لهؤلاء القوم الذين كذبوا بالحقِّ لما جاءهم: ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قَرْن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم، والعرب إذا أخبرت خبرًا عن غائبٍ، وأدخلت فيه "قولا"، فعلت ذلك، فوجهت الخبرَ أحيانًا إلى الخبر عن الغائب، وأحيانًا إلى الخطاب، فتقول: "قلت لعبد الله: ما أكرمه"، و"قلت لعبد الله: ما أكرمك"، وتخبر عنه أحيانًا على وجه الخبر عن الغائب، ثم تعود إلى الخطاب، وتخبر على وجه الخطاب له، ثم تعود إلى الخبر عن الغائب، وذلك في كلامها وأشعارها كثيرٌ فاشٍ" (١). ومثله البغوي، وابن عطية (٢).

قال الزمخشري: "مكن له في الأرض: جعل له مكانا فيها. ونحوه: أرض له. ومنه قوله إنا مكنا له في الأرض أولم نمكن لهم وأما مكنته في الأرض فأثبته فيها. ومنه قوله ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه ولتقارب المعنيين جمع بينهما في قوله مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم والمعنى لم نعط أهل مكة نحو ما أعطينا عادا وثمود وغيرهم، من البسطة في الأجسام، والسعة في الأموال والاستظهار بأسباب الدنيا" (٣).


(١) جامع البيان في تأويل آي القرآن، ت شاكر (١١/ ٢٦٤).
(٢) معالم التنزيل في تفسير القرآن (٢/ ١١٠)، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (٢/ ٢٦٩).
(٣) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (٢/ ٦).

<<  <   >  >>