للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ـ وقال -رحمه الله-: عند قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة البقرة: ١٧٩]، "خص بالنداء أصحاب العقول الكاملة، مع أن الخطاب عام للتنبيه على أن ذا اللب هو الذي يعرف قيمة الحياة والمحافظة عليها، ويعرف ما تقوم به المصلحة العامة وما يتوسل به إليها، وهو مرتبتان: القصاص وهو العدل، والعفو وهو الفضل، كأنه يقول: إن ذا اللب هو الذي يفقه سر هذا الحكم وما اشتمل عليه من الحكمة والمصلحة، فعلى كل مكلف أن يستعمل عقله في فهم دقائق الأحكام، وما فيها من المنفعة للأنام، وهو يفيد أن من ينكر منفعة القصاص بعد هذا البيان، فهو بلا لب ولا جنان، ولا رحمة ولا حنان" (١).

ـ وقال -رحمه الله-: عند قوله تعالى: {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [سورة البقرة: ٢٠٣]، "ومن فوائد هذا الأسلوب أن تكرار الأمر بالذكر وبيان مكانة التقوى، ثم الأمر بها تصريحا في هذه الآيات التي فيها من الإيجاز ما هو في أعلى درجات الإعجاز، حتى سكت عن بعض المناسك الواجبة للعلم بها، كل ذلك يدلنا على أن المهم في العبادة ذكر الله تعالى الذي يصلح النفوس وينير الأرواح، حتى تتوجه إلى الخير وتتقي الشرور والمعاصي، فيكون صاحبها من المتقين، ثم يرتقي في فوائد الذكر وثمراته فيكون من الربانيين" (٢)

[المطلب الثاني: الاستنباط باعتبار التركيب]

وهو استخراج المعاني البديعة والفوائد الدقيقة، بطريقة ضم النصوص بعضها إلى بعض، وهو قسم رفيع دقيق برز فيه عِلمُ العلماء من السلف والخلف رحمهم الله وتبين به مقدار ما وهبهم الله تعالى من ذكاء العقول وزكاء النفوس (٣).

وهو ما يسميه ابن القيم "دلالة التركيب؛ وهو ضمُّ نصٍّ إلى نصٍّ أخر، وهي غير دلالة الاقتران، بل هي ألطف منها وأدقُّ وأصح" (٤).

وكان الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله- ممن برع في هذا النوع من الاستنباطات في تفسيره، ومن ذلك:

ـ قوله -رحمه الله-: عند قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [سورة البقرة: ١٧]، فبعد أن أورد قوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [سورة الزمر: ٢٢]، وقوله: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (١٣) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (١٤)} [سورة الحديد: ١٣ - ١٤]، في تفسير قوله تعالى: (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ)، "وفي هاتين الآيتين أصدق بيان للمراد من ذهاب الله بنورهم، وكونه ليس إجبارا لهم على الكفر، ولا عبارة عن سلبهم التمكن من الإيمان، وإنما هو تعبير عن سنة الله تعالى في عاقبة فتنتهم لأنفسهم" (٥)، وكذا مثال (٦).


(١) تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) (٢/ ١٠٧).
(٢) تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) (٢/ ١٩٥).
(٣) منهج الاستنباط، فهد الوهبي ١٢٤.
(٤) إعلام الموقعين ١/ ٢٧٣.
(٥) تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) (١/ ١٤٣).
(٦) تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) (١/ ٣٣٩).

<<  <   >  >>