للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

٣٠. قال الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله-: "سيأتي في سورة الإسراء: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [سورة الإسراء: ٣١] فقدم رزق الأولاد هنالك على رزق الوالدين - عكس ما هنا - لأنه متعلق بالفقر المتوقع في المستقبل الذي يكون الأولاد فيه كبارا كاسبين، وقد يصير الوالدون في حاجة إليهم لعجزهم عن الكسب بالكبر، ففرق في تعليل النهي في الآيتين بين الفقر الواقع والفقر المتوقع، فقدم في كل منهما ضمان الكاسب للإشارة إلى أنه تعالى جعل كسب العباد سببا للرزق خلافا لمن يزهدونهم في العمل بشبه كفالته تعالى لرزقهم" (١).

[الدراسة]

استنبط الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله- استنباطا عقديا، في باب توحيد الربوبية، في مسألة الفقر الواقع والفقر المتوقع علة للنهي ولتقديم ضمان الكاسب، بدلالة التضمن.

وجه الاستنباط: بعد أن أمر الله ببر الوالدين والإحسان إليهما، عطف عليه النهي عن قتل الولد خشية الفقر الواقع من جهة الوالدين، وأنه لايسوغ لهما قتل ولدهما لأن الله هو الرزاق لكم ولهم، وأن النهي في سورة الإسراء متعلق بالفقر المتوقع في المستقبل، وأنه لا مبرر له لأن هؤلاء الأبناء يكونون في المستقبل أهلا للعمل والتكسب، فالقتل لهذه العلة منتفٍ، وفي كلا الأمرين إقرار بإفراد الله بالرزق والمجازاة عليه.

وهذا المعنى لم يشر إليه أحد، بل كانت عباراتهم في بيان النهي عن القتل، وسببه وأن رزق العباد على مولاهم وخالقهم.

ومن ذلك ما قاله ابن جرير: "يعني تعالى ذكره بقوله: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق)، ولا تئدوا أولادكم فتقتلوهم من خشية الفقر على أنفسكم بنفقاتهم، فإن الله هو رازقكم وإياهم، ليس عليكم رزقهم، فتخافوا بحياتهم على أنفسكم العجزَ عن أرزاقهم وأقواتهم" (٢)، ومثله البغوي، والقرطبي (٣).

وقال الرازي: "قوله: ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم فأوجب بعد رعاية حقوق الأبوين رعاية حقوق الأولاد وقوله: ولا تقتلوا أولادكم من إملاق أي من خوف الفقر وقد صرح بذكر الخوف في قوله: ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق [الإسراء: ٣١]، والمراد منه النهي عن الواد إذا كانوا يدفنون البنات أحياء بعضهم للغيرة وبعضهم خوف الفقر وهو السبب الغالب فبين تعالى فساد هذه العلة بقوله: نحن نرزقكم وإياهم لأنه تعالى إذا كان متكفلا برزق الوالد والولد فكما وجب على الوالدين تبقية النفس والاتكال في رزقها على الله فكذلك القول في حال الولد" (٤).


(١) تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) (٨/ ١٦٤).
(٢) جامع البيان في تأويل آي القرآن، ت شاكر (١٢/ ٢١٧).
(٣) معالم التنزيل في تفسير القرآن (٣/ ٢٠٣)، الجامع لأحكام القرآن (٧/ ١٣٢).
(٤) مفاتيح الغيب (١٣/ ١٧٨).

<<  <   >  >>