للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[عظمة الخالق وقصر عقول الخلق، وأن أفعاله لا تقاس بأفعالهم] قال تعالى (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧)) [سورة آل عمران ٤٧] قال الشيخ محمد رشيد -رحمه الله- إعلم أن الكافرين بآيات الله ينكرون الحمل بعيسى من غير أب جمودا على العادات، وذهولا عن كيفية ابتداء خلق جميع المخلوقات، ولو كان لهم دليل عقلي على استحالة ذلك لكانوا معذورين، ولكن لا دليل لهم إلا أن هذا غير معتاد (١). الدراسة استنبط الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله- استنباطا عقديا، في باب توحيد الربوبية، في مسألة عظمة الخالق وقصر عقول الخلق، وأن أفعاله لا تقاس بأفعالهم، من دلالة المفهوم. وجه الاستنباط أفعال الله جل وعلا تكون وفق إرادته ومشيئته، لا يسأل عما يفعل، ولا يمكن معرفة كيفيتها بالعقل البشري القاصر عن إدراكها، ولذلك فإنكار المنكرين خلق عيسى من غير أب، اعتماد على العادات والأشياء المتعارف عليها، وقصور عن إدراك ومعرفة ما يليق بالخالق سبحانه، وذهول عن كيفية بدء خلق المخلوقات، وأنه لا دليل عقلي يؤيد ما ذهبوا إليه من مخالفة المعتاد، وهذه مسألة متقررة عند أهل السنة والجماعة. قال ابن جرير وقوله (سُبْحَانَهُ) يقول تنزيهًا لله وتبرئة له أن يكون له ما أضاف إليه الكافرون القائلون عيسى ابن الله، وقوله إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) يقول جل ثناؤه إنما ابتدأ الله خلق عيسى ابتداء، وأنشأه إنشاء من غير فحل افتحل أمه، ولكنه قال له (كُنْ فَيَكُونُ) لأنه كذلك يبتدع الأشياء ويخترعها، إنما يقول، إذا قضى خلق شيء أو إنشاءه كن فيكون موجودا حادثا، لا يعظم عليه خلقه، لأنه لا يخلقه بمعاناة وكلفة، ولا ينشئه بمعالجة وشدّة (٢). قال ابن عطية جاءت العبارة في أمر زكريا يفعل وجاءت هنا، يَخْلُقُ من حيث أمر زكرياء داخل في الإمكان الذي يتعارف وإن قل وقصة مريم لا تتعارف البتة، فلفظ الخلق أقرب إلى الاختراع وأدل عليه (٣). قال ابن كثير في قوله تعالى (إن مثل عيسى عند الله) في قدرة الله تعالى حيث خلقه من غير أب (كمثل آدم) فإن الله تعالى خلقه من غير أب ولا أم، بل (خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) والذي خلق آدم قادر على خلق عيسى بطريق الأولى والأحرى، وإن جاز ادعاء البنوة في عيسى بكونه مخلوقا من غير أب، فجواز ذلك في آدم بالطريق الأولى، ومعلوم بالاتفاق أن ذلك باطل، فدعواها في عيسى أشد بطلانا وأظهر فسادا، ولكن الرب عز وجل، أراد أن يظهر قدرته لخلقه، حين خلق آدم لا من ذكر ولا من أنثى؛ وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر كما خلق بقية البرية من ذكر وأنثى، ولهذا قال تعالى في سورة مريم (ولنجعله آية للناس) [مريم ٢١] (٤). قال أبو السعود أن ولادة العذراء من غير أن يمسها بشر أبدع وأغرب من ولادة عجوز عاقر من شيخ فان فكان الخلق المنبئ عن الاختراع أنسب بهذا المقام من مطلق الفعل ولذلك عقب ببيان كيفيته فقيل (إذا قضى أمرا) من الأمور أي أراد شيئا كما في قوله تعالى (إنما أمره إذا أراد شيئا) وأصل القضاء الإحكام أطلق على الإرادة الإلهية القطعية المتعلقة بوجود الشئ لإيجابها إياه ألبتّه (٥). وبمثله قال الألوسي، وابن سعدي، وأبو زهرة (٦).


(١) تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) (٣/ ٢٥٣).
(٢) جامع البيان في تأويل آي القرآن (١٨/ ١٩٦).
(٣) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (١/ ٤٣٧).
(٤) تفسير القرآن العظيم، ت سلامة (٢/ ٤٩).
(٥) إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (٢/ ٣٧).
(٦) روح المعاني (٢/ ١٥٨)، تيسير الكريم الرحمن (ص: ١٣١)، زهرة التفاسير (٣/ ١٢١٩).

<<  <   >  >>