للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[رفع الله عيسى إلى السماء حيّا، رفعة لمكانته] قال تعالى (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥)) [سورة آل عمران ٥٥] قال الشيخ محمد رشيد -رحمه الله- وأجاب هؤلاء عما يرد عليهم من مخالفة القرآن في تقديم الرفع على التوفي بأن الواو لا تفيد ترتيبا، أقول وفاتهم أن مخالفة الترتيب في الذكر للترتيب في الوجود لا يأتي في الكلام البليغ إلا لنكتة، ولا نكتة هنا لتقديم التوفي على الرفع؛ إذ الرفع هو الأهم لما فيه من البشارة بالنجاة ورفعة المكانة (١). الدراسة استنبط الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله- استنباطا عقديا، في باب الإيمان بالرسل، في مسألة رفع الله عيسى إلى السماء حيّا، رفعة لمكانته، بدلالة المنطوق. وجه الاستنباط في قصة عيسى عليه السلام، الرفع قبل الإماتة على ما تقرر عند المفسرين، وتقديم التوفي على الرفع في الآية، وعطفه بالواو لا تفيد ترتيبا، ورفعه عليه السلام هو الأهم، وهذا بشارة بنجاته من القتل والتمثيل به، ورفعة لمكانته. قال ابن جرير وقال آخرون معنى ذلك إذ قال الله يا عيسى إني رافعك إليّ ومطهِّرك من الذين كفروا، ومتوفيك بعد إنزالي إياك إلى الدنيا، وقال هذا من المقدم الذي معناه التأخير، والمؤخر الذي معناه التقديم (٢). قال ابن كثير اختلف المفسرون في قوله (إني متوفيك ورافعك إلي) فقال قتادة وغيره هذا من المقدم والمؤخر، تقديره إني رافعك إلى ومتوفيك (٣)، وكذا قال البغوي، والقرطبي (٤). قال الرازي واختلف أهل التأويل في هاتين الآيتين على طريقين أحدهما إجراء الآية على ظاهرها من غير تقديم، ولا تأخير فيها، والثاني فرض التقديم والتأخير فيها، والطريق الثاني وهو قول من قال لا بد في الآية من تقديم وتأخير من غير أن يحتاج فيها إلى تقديم أو تأخير، قالوا إن قوله ورافعك إلي يقتضي أنه رفعه حيا، والواو لا تقتضي الترتيب، فلم يبق إلا أن يقول فيها تقديم وتأخير، والمعنى أني رافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد إنزالي إياك في الدنيا، ومثله من التقديم والتأخير كثير في القرآن. واعلم أن الوجوه الكثيرة التي قدمناها تغني عن التزام مخالفة الظاهر والله أعلم (٥). وقال ابن عاشور وقد قيل في تأويله إن عطف ورافعك إلي على التقديم والتأخير إذ الواو لا تفيد ترتيب الزمان أي إني رافعك إلي ثم متوفيك بعد ذلك، وليس في الكلام دلالة على أنه يموت في آخر الدهر سوى أن في حديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال (فيمكث (أي عيسى) في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون)) (٦)، والوجه أن يحمل قوله تعالى: {إني متوفيك} على حقيقته، وهو الظاهر، وأن تؤول الأخبار التي يفيد ظاهرها أنه حي على معنى حياة كرامة عند الله، كحياة الشهداء وأقوى، وأنه إذا حمل نزوله على ظاهره دون تأويل، أن ذلك يقوم مقام البعض، وأن قوله- في حديث أبي هريرة- ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون مدرج من أبي هريرة لأنه لم يروه غيره ممن رووا حديث نزول عيسى، وهم جمع من الصحابة، والروايات مختلفة وغير صريحة. ولم يتعرض القرآن في عد مزاياه إلى أنه ينزل في آخر الزمان" (٧).


(١) تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) (٣/ ٢٦٠).
(٢) جامع البيان في تأويل آي القرآن (٦/ ٤٥٨).
(٣) تفسير القرآن العظيم، ت سلامة (٢/ ٤٦).
(٤) معالم التنزيل في تفسير القرآن (١/ ٤٤٧)، الجامع لأحكام القرآن (٤/ ٩٩).
(٥) مفاتيح الغيب (٨/ ٢٣٨ - ٢٣٧).
(٦) رواه أبو داود: كتاب الملاحم، باب خروج الدجال، ح (٤٣٢٤)، [قال الشيخ الألباني: صحيح].
(٧) التحرير والتنوير (٣/ ٢٥٩).

<<  <   >  >>