للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال ابن عاشور: "قوله: (نزل عليك الكتاب) خبر عن اسم الجلالة، والخبر هنا مستعمل في الامتنان، أو هو تعريض ونكاية بأهل الكتاب: الذين أنكروا ذلك، وجيء بالمسند فعلا لإفادة تقوية الخبر، أو للدلالة -مع ذلك- على الاختصاص: أي الله لا غيره نزل عليك الكتاب إبطالا لقول المشركين: إن القرآن من كلام الشيطان، أو من طرائق الكهانة، أو يعلمه بشر" (١).

قال أبو زهرة: "في قوله (مصدقا) أي: أنه مصدق لما بين يديه؛ أي الشرائع الإلهية التي سبقته؛ ولذا قال سبحانه: (مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) فهو في لبه ومعناه مبين لكل الشرائع مصدق لصدقها؛ وهذا يدل على أن الشرائع الإلهية واحدة في لبها ومعناها وأصولها؛ ولذا قال سبحانه: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)، فالإسلام هو لب الأديان وغايتها" (٢).

[[الموازنة بين رغبات النفس وتسخيرها لتحقيق الغاية من الخلق]]

قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤)} [سورة آل عمران: ١٤]

٢. قال الشيخ محمد رشيد -رحمه الله-: "يعني أنه ليس المراد ذمها والتنفير عنها، وإنما المراد التحذير من أن تجعل هي غاية الحياة"، وقال: "وغفل الجميع عن كون الكلام في طبيعة البشر وبيان حقيقة الأمر في نفسه لا في جزئياته وأفراد وقائعه، فالمراد أن الله - تعالى - أنشأ الناس على هذا وفطرهم عليه" (٣).

[الدراسة]

استنبط الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله- استنباطا عقديا، في مسألة الفطرة، في مسألة الموازنة بين رغبات النفس وتسخيرها لتحقيق الغاية من الخلق، بدلالة التضمن.

وجه الاستنباط: هذه الأمور الواردة في الآية من الشهوات وأنها غريزة طبيعية في النفس البشرية، ولكن المهم ألا تجعل غاية للحياة وإنما هي وسيلة للتمتع بما أنعم الله به على الإنسان، يأخذ منها قدر المستطاع، فتكون وسيلة واستجابة لداعي الفطرة، وفق محددات الشريعة لهذه الشهوات، واستدرك على بعض المفسرين أنهم غفلوا عن كون الكلام في طبيعة البشر وفطرهم، ولهذا شواهد في السنة النبوية، ومن ذلك قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((حبب إلي النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة)) (٤). قال ابن جرير وإنما أراد بذلك توبيخ اليهود الذين آثرُوا الدنيا وحبَّ الرياسة فيها، على اتباع محمد -صلى الله عليه وسلم- بعد علمهم بصدقه (٥). قال الزمخشري والله زينها لهم، لأنا لا نعلم أحدا أذم لها من خالقها حب الشهوات جعل الأعيان التي ذكرها شهوات مبالغة في كونها مشتهاة محروصا على الاستمتاع بها، والوجه أن يقصد تخسيسها فيسميها شهوات، لأن الشهوة مسترذلة عند الحكماء مذموم من اتبعها شاهد على نفسه بالهيمية، وقال (زين للناس حب الشهوات) ثم جاء بالتفسير، ليقرر أولا في النفوس أن المزين لهم حبه ما هو إلا شهوات لا غير، ثم يفسره بهذه الأجناس، فيكون أقوى لتخسيسها، وأدل على ذم من يستعظمها ويتهالك عليها ويرجح طلبها على طلب ما عند الله (٦). وزاد أبوحيان خلقها وإنشاء الجبلة على الميل إليه (٧). وقال ابن عطية إذا قيل زين الله، فمعناه بالإيجاد والتهيئة لانتفاع وإنشاء الجبلة عن الميل إلى هذه الأشياء، وإذا قيل زين الشيطان فمعناه بالوسوسة والخديعة وتحسين أخذها من غير وجوهها، والآية تحتمل هذين النوعين من التزيين ولا يختلف مع هذا النظر، وهذه الآية على كلا الوجهين ابتداء وعظ لجميع الناس، وفي ضمن ذلك توضيح لمعاصري محمد عليه السلام من اليهود وغيرهم (٨)، وذكر ذلك القرطبي (٩)، وزاد البيضاوي المزين هو الله تعالى لأنه الخالق للأفعال والدواعي، ولعله زينه ابتلاء، أو لأنه يكون وسيلة إلى السعادة الأخروية إذا كان على وجه يرتضيه الله تعالى، أو لأنه من أسباب التعيش وبقاء النوع (١٠). قال ابن سعدي فلما زينت لهم هذه المذكورات بما فيها من الدواعي المثيرات، تعلقت بها نفوسهم ومالت إليها قلوبهم، وانقسموا بحسب الواقع إلى قسمين، قسم جعلوها هي المقصود، فصارت أفكارهم وخواطرهم وأعمالهم الظاهرة والباطنة لها، فشغلتهم عما خلقوا لأجله، وصحبوها صحبة البهائم السائمة، يتمتعون بلذاتها ويتناولون شهواتها، ولا يبالون على أي وجه حصلوها، ولا فيما أنفقوها وصرفوها، فهؤلاء كانت زادا لهم إلى دار الشقاء والعناء والعذاب، والقسم الثاني عرفوا المقصود منها وأن الله جعلها ابتلاء وامتحانا لعباده، ليعلم من يقدم طاعته ومرضاته على لذاته وشهواته، فجعلوها وسيلة لهم وطريقا يتزودون منها لآخرتهم ويتمتعون بما يتمتعون به على وجه الاستعانة به على مرضاته، قد صحبوها بأبدانهم وفارقوها بقلوبهم، وعلموا أنها كما قال الله فيها (ذلك متاع الحياة الدنيا) فجعلوها معبرا إلى الدار الآخرة ومتجرا يرجون بها الفوائد الفاخرة، فهؤلاء صارت لهم زادا إلى ربهم، وفي هذه الآية تسلية للفقراء الذين لا قدرة لهم على هذه الشهوات التي يقدر عليها الأغنياء، وتحذير للمغترين بها وتزهيد لأهل العقول النيرة بها (١١).


(١) التحرير والتنوير (٣/ ١٤٧).
(٢) زهرة التفاسير (٢/ ١١٠٠).
(٣) تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) (٣/ ١٩٦).
(٤) رواه النسائي: كتاب عشرة النساء باب حب النساء ح (٣٩٤٠) (٧/ ٦١) [قال الشيخ الألباني: صحيح]. ورواه الإمام أحمد بن حنبل: مسند أنس بن مالك رضى الله تعالى عنه ٣/ ٢٨٥ ح (١٤٠٦٩) [تعليق شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن رجاله ثقات رجال الشيخين غير سلام أبي المنذر فهو صدوق حسن الحديث].
(٥) جامع البيان في تأويل آي القرآن (٦/ ٢٤٣).
(٦) الكشاف (١/ ٣٤٢).
(٧) البحر المحيط (٣/ ٥٠).
(٨) المحرر الوجيز (١/ ٤٠٨).
(٩) الجامع لأحكام القرآن (٤/ ٢٨).
(١٠) أنوار التنزيل وأسرار التأويل (٢/ ٨).
(١١) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: ١٢٤).

<<  <   >  >>