للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[[توثيق الحقوق وضبط الأموال بالكتابة]]

قال تعالى: {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} [سورة البقرة: ٢٨٢].

٥٧. قال الشيخ محمد رشيد -رحمه الله-: "وهو دليل أيضا على أن الكتابة واجبة في القليل والكثير، ولذلك قدم ذكر الصغير الذي يتهاون فيه الناس لعدم مبالاتهم بضياعه، ومن لا يحرص على الصغير والقليل أن يضيع فقلما يتقن حفظ الكبير والكثير، ففي الآية إرشاد إلى عدم التهاون بشيء من الحقوق أن يذهب سدى، وهي قاعدة عظيمة من قواعد الاقتصاد، والعمل بها آية الكياسة والعقل، وكم من حريص على الدرهم والدانق يجود بالدنانير والبدر" (١).

[الدراسة]

استنبط الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله- استنباطا فقهيا، في باب الحقوق، في مسألة توثيق الحقوق وضبط الأموال بالكتابة، بدلالة التقديم والتأخير.

وجه الاستنباط: ارشدت الآية إلى حفظ الحقوق وإثبات صغيرها وكبيرها، لأن فيها ضبط للأموال وحفظ لها ومنع للتنازع عليها فيما بعد، والإسلام حريص على ائتلاف المسلمين وجمع كلمتهم، وإبعاد أي أمر يؤدي إلى تفرقهم وتنازعهم، وهذه قاعدة اقتصادية مهمة في علم الاقتصاد.

قال ابن كثير: "هذا من تمام الإرشاد، وهو الأمر بكتابة الحق صغيرا كان أو كبيرا" (٢).

قال أبو حيان: "لما نهى عن امتناع الشهود إذا ما دعوا للشهادة، نهى أيضا عن السآمة في كتابة الدين، كل ذلك ضبط لأموال الناس، وتحريض على ألا يقع النزاع، لأنه متى ضبط بالكتابة والشهادة قل أن يحصل وهم فيه أو إنكار، أو منازعة في مقدار أو أجل أو وصف، وقدم الصغير اهتماما به، وانتقالا من الأدنى إلى الأعلى، ونص على الأجل للدلالة على وجوب ذكره، فكتب كما يكتب أصل الدين ومحله إن كان مما يحتاج فيه إلى ذكر المحل، ونبه بذكر الأجل على صفة الدين ومقداره، لأن الأجل بعض أوصافه، والأجل هنا هو الوقت الذي اتفق المتداينان على تسميته" (٣).

قال ابن عاشور: "تعميم في أكوان أو أحوال الديون المأمور بكتابتها، فالصغير والكبير هنا مجازان في الحقير والجليل، والمعاملات الصغيرة أكثر من الكبيرة، فلذلك نهوا عن السآمة هنا" (٤).

قال أبو زهرة: "ولَا تملوا من كتاب الدين إلى أجله بأن تحدُّوه وتبينوا أجله، سواء أكان الدين كبيرًا أم كان الدين صغيرًا، فلا يذهب بكم احتقار الصغر إلى إهماله وعدم كتابته؛ لأن الصغر والكبر لَا حدود لهما، فقد يكون صغيرًا في نظر غني مليء، ويكون كبيرا خطيرا عند غيره؛ ولأن إهمال الصغير يؤدي إلى جحوده، وعندئذ تذهب الثقة، وإذا ذهبت ساد التناحر والتنازع؛ ولأن التهاون في الصغير قد يؤدي إلى التهاون في الكبير؛ وإن التشديد في كتابة الصغير والكبير يدل على أن الأمر بالكتابة للوجوب كما بينا" (٥).


(١) تفسير المنار (٣/ ١٠٥)
(٢) تفسير القرآن العظيم (١/ ٧٢٥).
(٣) البحر المحيط (٢/ ٧٣٦).
(٤) التحرير والتنوير (٢/ ٥٧٨).
(٥) زهرة التفاسير (٢/ ١٠٧٣).

<<  <   >  >>