للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[ذكر حب النساء وإغفال الرجال، بيان لأكثر ما تتحقق به اللذة، وتقع به الفتنة] قال تعالى (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤)) [سورة آل عمران ١٤] قال الشيخ محمد رشيد -رحمه الله- فمن تأمل هذه المعاني والفروق في حب كل من الزوجين للآخر يسهل عليه أن يقول إن المراد بحب النساء حب الزوجية الذي يكون بين المرأة والرجل فذكر أقوى طرفيه لأن قصد التمتع فيها أظهر، وأثره في الصرف عن الحق أو الاشتغال عن الآخرة أقوى، وطوى الطرف الثاني، وفعل مثل ذلك في النوع الثاني من الحب المزين للناس وهو حب الولد (١). الدراسة استنبط الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله- استنباطا عقديا، في باب الفتن، في مسألة ذكر حب النساء وإغفال الرجال، بيان لأكثر ما تتحقق به اللذة، وتقع به الفتنة، بدلالة الإشارة. وجه الاستنباط العلاقة الزوجية تتكون من علاقة رجل بامرأة، ومن ثم ينتج عنها الولد، وفي ذكر النساء والولد وإغفال الرجال بيان لأكثر شيء تتحقق فيه اللذة والاستئناس، وتقع به الفتنة، وهذه أبلغ إشارة في شرعية الاستمتاع، مع الحذر التام من الانصراف عن غايات أخرى عظيمة، وقد بنى الشيخ استنباطه على مسألة الاحتباك (٢) البلاغية. وقد سار على هذا جمع من المفسرين منهم، الرازي حيث قال إعلم أنه تعالى عدد هاهنا من المشتهيات أمورا سبعة أولها النساء وإنما قدمهن على الكل لأن الالتذاذ بهن أكثر والاستئناس بهن أتم ولذلك قال تعالى (خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) [سورة الروم ٢١] ومما يؤكد ذلك أن العشق الشديد المفلق المهلك لا يتفق إلا في هذا النوع من الشهوة (٣). وقال أبو حيان بدأ بالنساء لأنهن حبائل الشيطان وأقرب وأكثر امتزاجا قال -صلى الله عليه وسلم- (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)) (٤) وقال: ((ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن)) (٥)، ويقال فيهن فتنتان قطع الرحم وجمع المال من الحلال والحرام، وفي البنين فتنة واحدة وهي جمع المال، وثنى بالبنين لأنهم من ثمرات النساء، وفروع عنهن، وشقائق النساء في الفتن (٦). قال ابن عاشور فالميل إلى النساء مركوز في الطبع، وضعه الله تعالى لحكمة بقاء النوع بداعي طلب التناسل إذ المرأة هي موضع التناسل، فجعل ميل الرجل إليها في الطبع حتى لا يحتاج بقاء النوع إلى تكلف ربما تعقبه سآمة، وفي الحديث «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء»، ولم يذكر الرجال لأن ميل النساء إلى الرجال أضعف في الطبع، وإنما تحصل المحبة منهن للرجال بالإلف والإحسان (٧). وقيل سبب تقديم النساء لكثرة تشوق النفوس إليهن لأنهن حبائل الشيطان، وخص البنين دون البنات لعدم الاطراد في محبتهن (٨).


(١) تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) (٣/ ١٩٨).
(٢) الاحتباك هو: أن يحذف من الأول ما أثبت نظيره في الثاني ومن الثاني ما أثبت نظيره في الأول، وهو نوع عزيز، وهو من ألطف الأنواع وأبدعها وقل من تنبه له أو نبه عليه من أهل فن البلاغة، الإتقان في علوم القرآن (٣/ ٢٠٤).
(٣) مفاتيح الغيب (٧/ ١٦٢).
(٤) رواه البخاري: كتاب النكاح باب ما يتقى من شؤم المرأة ح (٤٨٠٨).
(٥) رواه البخاري: كتاب الحيض باب ترك الحائض الصوم ح (٢٩٨).
(٦) البحر المحيط في التفسير (٣/ ٥٠).
(٧) التحرير والتنوير (٣/ ١٨١).
(٨) انظر: الجامع لأحكام القرآن (٤/ ٢٩)، البحر المحيط (٣/ ٥٠)، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (٢/ ١٤)، فتح القدير للشوكاني (١/ ٣٧١).

<<  <   >  >>