للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وزاد ابن عطية: "لأن ما نتلقى نحن عن المعقول من بني آدم فهو أن المن المؤذي ينص على نفسه أن نيته لم تكن لله عز وجل على ما ذكرناه قبل، فلم تترتب له صدقة، فهذا هو بطلان الصدقة بالمنّ والأذى، والمن والأذى في صدقة لا يبطل صدقة غيرها، إذ لم يكشف ذلك على النية في السليمة ولا قدم فيها، ثم مثل الله هذا الذي يمن ويؤذي بحسب مقدمة نيته بالذي يُنْفِقُ رِئاءَ لا لوجه الله" (١).

وقال الرازي: "بين تعالى أن فعل الرجل لهذين الأمرين خير له من صدقة يتبعها أذى، وسبب هذا الترجيح أنه إذا أعطى، ثم أتبع الإعطاء بالإيذاء، فهناك جمع بين الإنفاع والإضرار، وربما لم يف ثواب الإنفاع بعقاب الإضرار، وأما القول المعروف ففيه إنفاع من حيث إنه يتضمن إيصال السرور إلى قلب المسلم ولم يقترن به الإضرار، فكان هذا خيرا من الأول" (٢). ومثله القرطبي (٣).

وقال ابن سعدي: "القول المعروف والمغفرة خير من الصدقة التي يتبعها أذى، لأن القول المعروف إحسان قولي، والمغفرة إحسان أيضا بترك المؤاخذة، وكلاهما إحسان ما فيه مفسد، فهما أفضل من الإحسان بالصدقة التي يتبعها أذى بمن أو غيره، ومفهوم الآية أن الصدقة التي لا يتبعها أذى أفضل من القول المعروف والمغفرة، وإنما كان المن بالصدقة مفسدا لها محرما، لأن المنة لله تعالى وحده، والإحسان كله لله، فالعبد لا يمن بنعمة الله وإحسانه وفضله وهو ليس منه، وأيضا فإن المان مستعبد لمن يمن عليه، والذل والاستعباد لا ينبغي إلا لله، والله غني بذاته عن جميع مخلوقاته، وكلها مفتقرة إليه بالذات في جميع الحالات والأوقات، فصدقتكم وإنفاقكم وطاعاتكم يعود مصلحتها إليكم ونفعها إليكم" (٤). وبمثله قال ابن عاشور (٥).

[[الخير الكثير في اقتران العقل بالعلم]]

قال تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (٢٦٩)} [سورة البقرة: ٢٦٩]

٥٥. قال الشيخ محمد رشيد -رحمه الله-: "إن الله جعل الخير الكثير مع الحكمة في قرن، فهما لا يفترقان كما لا يفترق المعلول عن علته التامة، فالحكمة: هي العلم الصحيح المحرك للإرادة إلى العمل النافع الذي هو الخير، وآلة الحكمة هي العقل السليم المستقل بالحكم في مسائل العلم، فهو لا يحكم إلا بالدليل، فمتى حكم جزم فأمضى وأبرم، فكل حكيم عليم عامل مصدر للخير الكثير" (٦).


(١) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (١/ ٣٥٧).
(٢) مفاتيح الغيب (٧/ ٤٣).
(٣) الجامع لأحكام القرآن (٣/ ٣٠٩).
(٤) تيسير الكريم الرحمن (ص: ١١٣).
(٥) التحرير والتنوير (٣/ ٤٧).
(٦) تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) (٣/ ٦٥).

<<  <   >  >>