للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[الدراسة]

استنبط الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله- استنباطا عقديا، في باب الدعوة، في مسألة استخدام أسلوب السؤال والجواب في الدعوة لتقرير الحجة، بدلالة السياق.

وجه الاستنباط: هذه الآية في معرض محاجة المشركين، وإبطال معتقداتهم، وإلجائهم إلى الإقرار بتوحيد الله جل وعلا، وهو أسلوب امتلأت به سورة الأنعام في تقرير التوحيد بالأدلة العقلية، فجاءت بأنواع من الأدلة العقلية على تقرير التوحيد، ثم جاءت بالتبكيت لهم عند إعراضهم، وجاءت بالقطع والبرهان الدامغ الذي قطع عليهم الطريق وبينه بأفضل بيان، بهذا الأسلوب من باب التنوع في أساليب الاحتجاج.

قال ابن عاشور فقال: "والاستفهام مستعمل مجازا في التقرير، والتقرير هنا مراد به لازم معناه، وهو تبكيت المشركين وإلجاؤهم إلى الإقرار بما يفضي إلى إبطال معتقدهم الشرك، فهو مستعمل في معناه الكنائي مع معناه الصريح، والمقصود هو المعنى الكنائي. ولكونه مرادا به الإلجاء إلى الإقرار كان الجواب عنه بما يريده السائل من إقرار المسئول محققا لا محيص عنه، إذ لا سبيل إلى الجحد فيه أو المغالطة، فلذلك لم ينتظر السائل جوابهم وبادرهم الجواب عنه بنفسه بقوله: لله تبكيتا لهم، لأن الكلام مسوق مساق إبلاغ الحجة مقدرة فيه محاورة وليس هو محاورة حقيقية، وهذا من أسلوب الكلام الصادر من متكلم واحد، فهؤلاء القوم المقدر إلجاؤهم إلى الجواب سواء أنصفوا فأقروا حقية الجواب أم أنكروا وكابروا فقد حصل المقصود من دمغهم بالحجة، وهذا أسلوب متبع في القرآن، فتارة لا يذكر جواب منهم كما هنا، وكما في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} [الرعد: ١٦]، وتارة يذكر ما سيجيبون به بعد ذكر السؤال منسوبا إليهم أنهم يجيبون به ثم ينتقل إلى ما يترتب عليه من توبيخ ونحوه" (١).

وقال ابن عطية: "أمر الله عز وجل محمدا عليه السلام بقطعهم بهذه الحجة الساطعة والبرهان القطعي الذي لا مدافعة فيه عندهم ولا عند أحد، ليعتقد هذا المعتقد الذي بينه وبينهم ثم يتركب احتجاجه عليه، وجاء ذلك بلفظ استفهام وتقرير في قوله: لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ والوجه في المحاجّة إذا سأل الإنسان خصمه، بأمر لا يدافعه الخصم فيه، أن يسبقه بعد التقرير إليه مبادرة إلى الحجة، كما تقول لمن تريد غلبته بآية تحتج بها عليه، كيف قال الله في كذا؟ ثم تسبقه أنت إلى الآية فتنصها عليه" (٢)، وبنحوه قال الرزاي، والبيضاوي، وأبو حيان، والشوكاني (٣).


(١) التحرير والتنوير (٧/ ١٥٠).
(٢) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (٢/ ٢٧١).
(٣) مفاتيح الغيب (١٢/ ٤٨٨)، أنوار التنزيل وأسرار التأويل (٢/ ١٥٥)، البحر المحيط في التفسير (٤/ ٤٤٦)، فتح القدير (٢/ ١١٨).

<<  <   >  >>