للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[[المساواة في القصاص سبيل للحياة]]

قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩)} [سورة البقرة: ١٧٩]

٢٧. وقال الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله-: "إن الآية على كونها أبلغ، وكلمتها أوجز، قد أفادت حكما لم تكن عليه العرب قبلها، ولم يطلبه أحد من عقلائهم وبلغائهم، وهو المساواة في العقوبة وبيان أن فيه الحياة الطيبة، وصيانة الناس من اعتداء بعضهم على بعض" (١).

[الدراسة]

استنبط الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله- استنباطا فقهيا، في باب الحدود، في مسألة المساواة في القصاص سبيل للحياة، من دلالة مفهوم الآية.

وجه الاستنباط: جاءت الآية بحكم المساواة في العقوبة، وأنه السبيل للحياة الطيبة، وفيه صيانة للناس من اعتداء بعضهم على بعض، وأن القصاص إذا أقيم وتحقق الحكم فيه ازدجر من يريد قتل آخر، مخافة أن يقتص منه فيحييا بذلك معا، وهذا حكم لم تعرفه العرب قبل ذلك، وهو على خلاف ما كانت عليه، إذ كانوا إذا قتل الرجل الآخر حمي قبيلاهما وتقاتلوا، وكان ذلك داعيا إلى قتل العدد الكثير، فلما شرع الله القصاص قنع الكل به وتركوا الاقتتال، فكان لهم في ذلك حياة، وفيه أيضا إشارة إلى إعمال العقل، والبعد عن الحميات والعصبيات القبلية التي كانت مسيطرة في ذلك الوقت وإلى يومنا هذا، ولا يفهم هذه الحكمة إلى أصحاب العقول السليمة.

قال ابن كثير: "وفي شرع القصاص لكم - وهو قتل القاتل - حكمة عظيمة لكم، وهي بقاء المهج وصونها؛ لأنه إذا علم القاتل أنه يقتل انكف عن صنيعه، فكان في ذلك حياة النفوس، وفي الكتب المتقدمة: القتل أنفى للقتل، فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح، وأبلغ، وأوجز" (٢)، وممن قال بهذا أبو حيان، والقرطبي، وابن سعدي، والشوكاني (٣).

قال ابن سعدي: "وأن من كان بهذه المثابة فقد استحق المدح بأنه من ذوي الألباب الذين وجه إليهم الخطاب، وناداهم رب الأرباب، وكفى بذلك فضلا وشرفا لقوم يعقلون" (٤).

قال الشيخ سليمان الخراشي: "وإن من أبعاد تلك المنزلة التي جعلها الإسلام للعقل: تعظيم الإسلام لعمل العقل في سبيل الوصول إلى الحقائق بطرق شتى منها؛ الثناء على أصحاب العقل الذين يستعملونه في الحكم على الأشياء والتعامل معها، فالله سبحانه يخاطب أصحاب العقول حينما يذكر أحكامه لأنهم هم الذين يفهمون أنها أحكام عدل وحق" (٥).


(١) تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) (٢/ ١٠٧).
(٢) تفسير القرآن العظيم (١/ ٤٩٢).
(٣) البحر المحيط (٢/ ١٥٣)، الجامع لأحكام القرآن (٢/ ٢٥٦)، تفسير السعدي (١/ ٨٤)، فتح القدير (١/ ٢٢٨).
(٤) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (١/ ٨٤).
(٥) انظر: نقض أصول العقلانيين (٣/ ٣٤).

<<  <   >  >>