للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[[من لم يتخلق بالخوف والرجاء تحققت فيه مقومات الإفساد والمفسدين]]

قال تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦)} [سورة الأعراف: ٥٦]

٨. قال الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله-: " (وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا) أعاد الأمر بالدعاء بقيد آخر بعد أن وسط بينهما النهي عن الإفساد، للإيذان بأن من لا يعرف نفسه بالحاجة والافتقار إلى رحمة ربه الغني القدير وفضله وإحسانه، ولا يدعوه تضرعا وخفية ولا خوفا من عقابه وطمعا في غفرانه، فإنه يكون أقرب إلى الإفساد منه إلى الإصلاح، إلا أن يعجز" (١).

[الدراسة]

استنبط الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله- استنباطا عقديا، في باب العبودية، في مسألة من لم يتخلق بالخوف والرجاء تحققت فيه مقومات الإفساد والمفسدين، بدلالة الاقتضاء.

وجه الاستنباط: الإنسان مهما بلغ من قوة ونفوذ لا بد أن يجمع بين جانبي الرجاء والخوف من الله عز وجل، وألا يغلب جانبا على آخر، فإن تغليب أحدهما يكون سببا للانسياق في الفساد وأبعد عن طريق الصلاح، ولذا عليه أن يظهر فقره وحاجته لله عز وجل في كل وقت وعلى أية حالة، والدعاء والتضرع إلى الله مما يظهر فقر الإنسان وحاجته، ولذا أعاد الله الأمر به في هذه الآية، فإن من لا يدعو الله تضرعا وخفية ولا خوفا من عقابه ولا طمعا في غفرانه، فإنه تتحقق فيه مقومات الإفساد والمفسدين.

قال ابن عطية: "أمر بأن يكون الإنسان في حالة ترقب وتحزن وتأميل لله عز وجل حتى يكون الرجاء والخوف كالجناحين للطائر يحملانه في طريق استقامة وإن انفرد أحدهما هلك الإنسان، وقد قال كثير من العلماء ينبغي أن يغلب الخوف الرجاء طول الحياة، فإذا جاء الموت غلب الرجاء، وقد رأى كثير من العلماء أن يكون الخوف أغلب على المرء بكثير، وهذا كله احتياط" (٢).

قال الرازي: "أن الداعي لا يكون داعيا إلا إذا كان كذلك فقوله: خوفا وطمعا أي أن تكونوا جامعين في نفوسكم بين الخوف والرجاء في كل أعمالكم ولا تقطعوا أنكم وإن اجتهدتم فقد أديتم حق ربكم، ويتأكد هذا بقوله: يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة [المؤمنون: ٦٠] " (٣).

قال أبو حيان: "لما كان الدعاء من الله بمكان كرره فقال أولا ادعوا ربكم تضرعا وخفية وهاتان الحالتان من الأوصاف الظاهرة لأن الخشوع والاستكانة وإخفاء الصوت ليست من الأفعال القلبية أي وجلين مشفقين وراجين مؤملين فبدأ أولا بأفعال الجوارح ثم ثانيا بأفعال القلوب وانتصب خوفا وطمعا على أنهما مصدران في موضع الحال أو انتصاب المفعول له وعطف أحدهما على الآخر يقتضي أن يكون الخوف والرجاء متساويين ليكونا للإنسان كالجناحين للطائر يحملانه في طريق استقامة فإن انفرد أحدهما هلك الإنسان، وقد قال كثير من العلماء: ينبغي أن يغلب الخوف الرجاء طول الحياة فإذا جاء الموت غلب الرجاء ورأى كثير من العلماء أن يكون الخوف أغلب" (٤).


(١) تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) (٨/ ٤١٠).
(٢) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (٢/ ٤١١).
(٣) مفاتيح الغيب (١٤/ ٢٨٥).
(٤) البحر المحيط في التفسير (٥/ ٧٠).

<<  <   >  >>