للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[الدراسة]

استنبط الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله- استنباطا عقديا، في باب توحيد الربوبية، في مسألة (الله يحول بين العبد وقلبه) أمر حوى من المعاني والحقائق ما لا يمكن حصره وإدراك آثاره، وفيه رد على الجبرية، بدلالة التضمن.

وجه الاستنباط: لفظة (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه) جمعت مكنونات النفس البشرية، وقدراتها ورغباتها وعجزها عن تلبيتها رغباتها، لأنها تحت قدرة الله عز وجل، وهي بين فضل الله وعدله، ولم يجبرهم على الضلال من دون سبب منهم، بل إن اتباعهم لأهوائهم هو سبب ضلالهم، وهذا المعنى فيه بناء للمعتقد الصحيح في اختيار العبد لسبيله في الحياة، وفيه تعلق لقلب العبد بربه وإحسانه الظن به، وعدم الأمن منمكر الله، وعدماليأس من رحمته، وفيه رد على الجبرية في دعاويهم الباطلة في هذا الباب.

قال ابن جرير: "أن ذلك خبرٌ من الله عز وجل أنه أملك لقلوب عباده منهم، وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء، حتى لا يقدر ذو قلب أن يُدرك به شيئًا من إيمان أو كفر، أو أن يَعِي به شيئًا، أو أن يفهم، إلا بإذنه ومشيئته، وذلك أن "الحول بين الشيء والشيء"، إنما هو الحجز بينهما، وإذا حجز جل ثناؤه بين عبد وقلبه في شيء أن يدركه أو يفهمه، لم يكن للعبد إلى إدراك ما قد منع الله قلبَه إدراكَه سبيلٌ" (١).

قال الزمخشري: "واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه يعنى أنه يميته فتفوته الفرصة التي هو واجدها وهي التمكن من إخلاص القلب ومعالجة أدوائه وعلله ورده سليما كما يريده الله، فاغتنموا هذه الفرصة، وأخلصوا قلوبكم لطاعة الله ورسوله" (٢)، وذكر هذا القرطبي (٣).

وقال ابن عطية: "فهذه صلة حياة الدنيا بحياة الآخرة، وقوله وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ يحتمل وجوها، ومنها أنه لما أمرهم بالاستجابة في الطاعة حضهم على المبادرة والاستعجال، فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} بالموت والقبض أي فبادروا بالطاعات، ويلتئم مع هذا التأويل قوله: {وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي فبادروا الطاعات وتزودوها ليوم الحشر، ومنها أن يقصد بقوله {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} إعلامهم أن قدرة الله وإحاطته وعلمه والجة بين المرء وقلبه حاصلة هناك حائلة بينه وبين قلبه، قال القاضي أبو محمد: فكأن هذا المعنى يحض على المراقبة والخوف لله المطلع على الضمائر" (٤).


(١) جامع البيان في تأويل آي القرآن، ت شاكر (١٣/ ٤٧٢).
(٢) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (٢/ ٢١٠).
(٣) الجامع لأحكام القرآن (٧/ ٣٩١).
(٤) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (٢/ ٥١٤).

<<  <   >  >>