للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ثم قرن الشيخ ذلك الأسلوب الرباني في التربية بأساليب العصر القائمة على الباطل والضلال، كدعوى تربية المتجتمعات على الحرية والاستقلال بلا خطام ولا زمام، وخطورة ذلك ونتيجته على عقائد المجتمعات وتوحيدها لربها، فإذا كان ذلك الحال في أول الدعوة فمن باب أولى اتخاذ هذه الطريقة في عصرنا، فإن أثر العادة على المرء قوي، فينبغي تربية الصغار وتعويدهم على فضائل الاخلاق شيئا فشيئا، وهذا حام لهم من الفتن المحيطة بهم.

ووافقه على هذا المعنى ابن عاشور فقال: "قوله: ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ارتقاء في إبطال قولهم حتى يكون بمنزلة التسليم الجدلي في المناظرة، أي لو أجيبت أمنيتهم وردوا إلى الدنيا لعادوا للأمر الذي كان النبيء ينهاهم عنه، وهو التكذيب وإنكار البعث، وذلك لأن نفوسهم التي كذبت فيما مضى تكذيب مكابرة بعد إتيان الآيات البينات، هي النفوس التي أرجعت إليهم يوم البعث فالعقل العقل والتفكير التفكير، وإنما تمنوا ما تمنوا من شدة الهول فتوهموا التخلص منه بهذا التمني فلو تحقق تمنيهم وردوا واستراحوا من ذلك الهول لغلبت أهواؤهم رشدهم فنسوا ما حل بهم ورجعوا إلى ما ألفوا من التكذيب والمكابرة. وفي هذا دليل على أن الخواطر الناشئة عن عوامل الحس دون النظر والدليل لا قرار لها في النفس ولا تسير على مقتضاها إلا ريثما يدوم ذلك الإحساس فإذا زال زال أثره، فالانفعال به يشبه انفعال العجماوات من الزجر والسوط ونحوهما، ويزول بزواله حتى يعاوده مثله" (١).

وقد اقتصر جل المفسرين على بيان أن هؤلاء الكفار لو عادوا مرة أخرى إلى الدنيا فإنهم لن ينتفعوا من النظر في الأدلة والبراهين بل يعودوا لما كان متأصل فيهم من عادة الكفر والبعد عن الله.

ومن هؤلاء، ابن جرير فقال: "يقول: لرجعوا إلى مثل العمل الذي كانوا يعملونه في الدنيا قبل ذلك، من جحود آيات الله، والكفر به، والعمل بما يسخط عليهم ربِّهم "إنهم لكاذبون في قيلهم: "لو رددنا لم نكذب بآيات ربّنا وكنا من المؤمنين"، لأنهم قالوه حين قالوه خشية العذاب، لا إيمانًا بالله" (٢).

وقال الرازي: "قال تعالى: ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه والمعنى أنه تعالى لو ردهم لم يحصل منهم ترك التكذيب وفعل الإيمان، بل كانوا يستمرون على طريقتهم الأولى في الكفر والتكذيب" (٣)، ومثله البيضاوي، القرطبي (٤).


(١) التحرير والتنوير (٧/ ١٨٦).
(٢) جامع البيان في تأويل آي القرآن، ت شاكر (١١/ ٣٢٢).
(٣) مفاتيح الغيب (١٢/ ٥١٠).
(٤) أنوار التنزيل وأسرار التأويل (٢/ ١٥٩)، الجامع لأحكام القرآن (٦/ ٤١٠).

<<  <   >  >>