للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نَجَسٌ وَالتَّدَاوِي بِالطَّاهِرِ الْمُحَرَّمِ كَلَبَنِ الْأَتَانِ فَلَا يَجُوزُ فَمَا ظَنُّك بِالنَّجَسِ؛ وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ ثَابِتَةٌ فَلَا يُعْرَضُ عَنْهَا إلَّا بِتَيَقُّنِ الشِّفَاءِ وَتَأْوِيلُ مَا رُوِيَ فِي قِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَرَفَ شِفَاءَهُمْ فِيهِ وَحْيًا وَلَمْ يُوجَدْ تَيَقُّنُ شِفَاءُ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ الْمَرْجِعَ فِيهِ الْأَطِبَّاءُ وَقَوْلُهُمْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ قَطْعِيَّةٍ وَجَازَ أَنْ يَكُونَ شِفَاءُ قَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ لِاخْتِلَافِ الْأَمْزِجَةِ حَتَّى لَوْ تَعَيَّنَ الْحَرَامُ مَدْفَعًا لِلْهَلَاكِ الْآنَ يَحِلُّ كَالْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ؛ وَلِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عُلِمَ مَوْتُهُمْ مُرْتَدِّينَ وَحْيًا وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ شِفَاءُ الْكَافِرِينَ فِي نَجِسٍ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} [النور: ٢٦] وَبِدَلِيلِ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ» فَاسْتُفِيدَ مِنْ كَافِ الْخِطَابِ أَنَّ الْحُكْمَ مُخْتَصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ هَذَا وَقَدْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ مَشَايِخِنَا فِي التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمِ فَفِي النِّهَايَةِ عَنْ الذَّخِيرَةِ الِاسْتِشْفَاءُ بِالْحَرَامِ يَجُوزُ إذَا عُلِمَ أَنَّ فِيهِ شِفَاءً وَلَمْ يُعْلَمْ دَوَاءٌ آخَرُ اهـ.

وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خان مَعْزِيًّا إلَى نَصْرِ بْنِ سَلَّامٍ مَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ» إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يَكُونُ فِيهَا شِفَاءٌ فَأَمَّا إذَا كَانَ فِيهَا شِفَاءٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَطْشَانَ يَحِلُّ لَهُ شُرْبُ الْخَمْرِ لِلضَّرُورَةِ اهـ.

وَكَذَا اخْتَارَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ فِي التَّجْنِيسِ فَقَالَ إذَا سَالَ الدَّمُ مِنْ أَنْفِ إنْسَانٍ يَكْتُبُ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ بِالدَّمِ عَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ وَيَجُوزُ ذَلِكَ لِلِاسْتِشْفَاءِ وَالْمُعَالَجَةِ، وَلَوْ كَتَبَ بِالْبَوْلِ إنْ عُلِمَ أَنَّ فِيهِ شِفَاءً لَا بَأْسَ بِذَلِكَ لَكِنْ لَمْ يُنْقَلْ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةُ سَاقِطَةٌ عِنْدَ الِاسْتِشْفَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَطْشَانَ يَجُوزُ لَهُ شُرْبُ الْخَمْرِ وَالْجَائِعُ يَحِلُّ لَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ. اهـ. وَسَيَأْتِي لِهَذَا زِيَادَةُ بَيَانٍ فِي بَابِ الْكَرَاهِيَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي التَّبْيِينِ وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ الطَّاهِرِ لَا يَجُوزُ شُرْبُهُ وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَشَدُّ إشْكَالًا اهـ.

وَقَدْ يُقَالُ إنَّهُ لَا إشْكَالَ فِيهِ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ قَالَ بِنَجَاسَتِهِ عَمَلًا بِحَدِيثِ «اسْتَنْزِهُوا مِنْ الْبَوْلِ» وَقَالَ بِجَوَازِ شُرْبِهِ لِلتَّدَاوِي عَمَلًا بِحَدِيثِ الْعُرَنِيِّينَ.

(قَوْلُهُ: وَعِشْرُونَ دَلْوًا وَسَطًا بِمَوْتِ نَحْوِ فَأْرَةٍ) قَالَ فِي التَّبْيِينِ أَيْ يُنْزَحُ عِشْرُونَ إذَا مَاتَتْ فِيهَا فَأْرَةٌ وَنَحْوُهَا وَقَوْلُهُ عِشْرُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْبِئْرِ وَفِيهِ إشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّهُ يَصِيرُ مَعْنَاهُ تُنْزَحُ الْبِئْرُ وَعِشْرُونَ دَلْوًا وَأَرْبَعُونَ وَكُلُّهُ فَيَفْسُدُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي نَزَحَ الْبِئْرِ وَعِشْرِينَ دَلْوًا وَلَيْسَ هَذَا بِمُرَادِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنْ تُنْزَحَ الْبِئْرُ إذَا وَقَعَ فِيهَا نَجَسٌ ثُمَّ ذَلِكَ النَّجَسُ يَنْقَسِمُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ مِنْهُ مَا يُوجِبُ نَزْحَ عِشْرِينَ وَمِنْهُ مَا يُوجِبُ نَزْحَ أَرْبَعِينَ وَمِنْهُ مَا يُوجِبُ نَزْحَ الْجَمِيعِ وَلَيْسَ نَزْحُ الْبِئْرِ مُغَايِرًا لِهَذِهِ الثَّلَاثِ حَتَّى يُعْطَفَ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا هُوَ تَفْسِيرٌ وَتَقْسِيمٌ لِذَلِكَ النَّزَحِ الْمُبْهَمِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ عَطْفِ الْبَعْضِ عَلَى الْكُلِّ لَا يُقَالُ إنَّهُ أَرَادَ بِالْأَوَّلِ مَا يُوجِبُ الْجَمِيعَ وَبِالْمَعْطُوفِ مَا يُوجِبُ نَزْحَ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يُوجِبُ نَزْحَ الْجَمِيعِ أَيْضًا فَلَوْ كَانَ مُرَادُهُ الْجَمِيعَ لَمَا ذَكَرَ ثَانِيًا لِكَوْنِهِ تَكْرَارًا مَحْضًا؛ وَلِأَنَّ الْأَوَّلَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ فَبَقِيَ عَلَى إطْلَاقِهِ إلَى هُنَا كَلَامُ الزَّيْلَعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -

وَأَقُولُ: لَا حَاجَةَ إلَى هَذِهِ الْإِطَالَةِ مَعَ إمْكَانِ حَمْلِ كَلَامِهِ عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ، فَإِنَّ قَوْلَهُ عِشْرُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْبِئْرِ بِمَعْنَى مَاءِ الْبِئْرِ كَمَا تَقَدَّمَ وَالْوَاوُ فِيهِ كَبَقِيَّةِ الْمَعْطُوفَاتِ بِمَعْنَى أَوْ وَالتَّقْدِيرُ يُنْزَحُ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ بِوُقُوعِ نَجَسٍ غَيْرَ حَيَوَانٍ أَوْ يُنْزَحُ عِشْرُونَ دَلْوًا مِنْ مَاءِ الْبِئْرِ بِمَوْتِ نَحْوِ فَأْرَةٍ أَوْ أَرْبَعُونَ مِنْهُ بِنَحْوِ دَجَاجَةٍ أَوْ كُلُّهُ بِنَحْوِ شَاةٍ إلَى آخِرِهِ وَبِهَذَا عُلِمَ أَنَّ قَوْلَهُ وَتُنْزَحُ الْبِئْرُ بِوُقُوعِ نَجَسٍ لَيْسَ مُبْهَمًا بَلْ الْمُرَادُ مِنْهُ نَجَسٌ غَيْرُ حَيَوَانٍ انْدَفَعَ بِهِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ لُزُومِ التَّكْرَارِ لَوْ أُرِيدَ بِالْأَوَّلِ نَزْحُ الْجَمِيعِ، فَإِنَّهُ أُرِيدَ بِالْأَوَّلِ نَزْحَ الْجَمِيعِ لِوُقُوعِ غَيْرِ حَيَوَانٍ وَأُرِيدَ بِالثَّانِي نَزْحُ الْجَمِيعِ لِوُقُوعِ حَيَوَانٍ مَخْصُوصٍ فَلَا تَكْرَارَ وَقَوْلُهُ؛ وَلِأَنَّ الْأَوَّلَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ إلَى آخِرِهِ سَلَّمْنَاهُ لَكِنْ يُمْنَعُ قَوْلُهُ فَبَقِيَ عَلَى إطْلَاقِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ جَوَازِ حَمْلِهِ عَلَى الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثِ بَقَاؤُهَا مُطْلَقًا لِجَوَازٍ حَمْلِهِ عَلَى نَوْعٍ رَابِعٍ غَيْرِ

ــ

[منحة الخالق]

[التَّدَاوِي بِبَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ]

(قَوْلُهُ: هَذَا وَقَدْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ إلَخْ) قَالَ سَيِّدِي عَبْدُ الْغَنِيِّ فِي شَرْحِهِ عَلَى هَدِيَّةِ ابْنِ الْعِمَادِ: بَعْدَ نَقْلِهِ عِبَارَةَ الْمُؤَلِّفِ لَا يَظْهَرُ فِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى الْجَوَازِ لِلضَّرُورَةِ وَتَصْرِيحُ الْأَوَّلِ أَيْ صَاحِبِ النِّهَايَةِ بِاشْتِرَاطِ الْعِلْمِ لَا يُنَافِيه قَوْلُ مَنْ بَعْدَهُ بِاشْتِرَاطِ الشِّفَاءِ فِيهِ فَلْيُتَأَمَّلْ قَالَ وَالِدِي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَوْلُ الْمُؤَلِّفِ يَعْنِي صَاحِبَ الدُّرَرِ لَا لِلتَّدَاوِي مَحْمُولٌ عَلَى الْمَظْنُونِ، وَإِلَّا فَجَوَازُهُ بِالْيَقِينِ اتِّفَاقِيٌّ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمُصَفَّى لِقِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ. اهـ.

(قَوْلُهُ: وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ مُشْكِلٌ إلَخْ) قَالَ فِي النَّهْرِ مَدْفُوعٌ إذْ الْكَلَامُ فِي طَاهِرٍ لَا إيذَاءَ فِيهِ بَلْ كَانَ دَوَاءً عَلَى أَنَّ الْمَنْعَ فِي لَبَنِ الْأَتَانِ مَمْنُوعٌ فَفِي الْبَزَّازِيَّةِ لَا بَأْسَ بِالتَّدَاوِي بِهِ قَالَ الصَّدْرُ وَفِيهِ نَظَرٌ (قَوْلُهُ: لَا إشْكَالَ فِيهِ) أَيْ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>