مِنْ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ فَلَا بَأْسَ بِصَيْدِهِ وَلَا خَيْرَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ إلَّا أَنْ تُدْرِكَ ذَكَاتَهُ فَتُذَكِّيَهُ قَالَ فِي الْعِنَايَةِ وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ؛ لِأَنَّ رِوَايَةَ الْقُدُورِيِّ تَدُلُّ عَلَى الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ جَمِيعًا. اهـ.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُمْ قَدْ صَرَّحُوا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا بِأَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ فِي الرِّوَايَةِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ بِالِاتِّفَاقِ، فَرِوَايَةُ الْقُدُورِيِّ تَدُلُّ عَلَى إثْبَاتِ الصَّيْدِ بِمَا ذَكَرْنَا وَنَفْيِ جَوَازِهِ بِمَا سِوَاهُ فَلَمْ يَتِمَّ مَا ذَكَرَهُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: ٤] وَالْجَوَارِحُ الْكَوَاسِبُ وَالْجَرْحُ الْكَسْبُ، وَقِيلَ هِيَ أَنْ تَكُونَ جَارِحَةً بِنَابِهَا وَمِخْلَبِهَا حَقِيقَةً وَمَعْنًى مُكَلِّبِينَ مُعَلَّمِينَ الِاصْطِيَادَ وَلِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي الْحَيَوَانِ الصَّائِدِ مَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لِلذَّبْحِ وَهُوَ كَوْنُهُ جَارِحًا قَاطِعًا بِطَبْعِهِ غَيْرَ عَاقِلٍ كَالسِّكِّينِ وَمَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لِلذَّبْحِ وَهُوَ كَوْنُهُ مُخْتَارًا فِي فِعْلِهِ كَالْآدَمِيِّ، وَالشَّرْعُ جَعَلَ التَّعْلِيمَ فِيهِ بِتَرْكِ الْأَكْلِ فَيَجْرِي عَلَى مُوجَبِ اخْتِيَارِ صَاحِبِهِ فَيَعْمَلُ لَهُ لَا لِنَفْسِهِ فَيَصِيرُ آلَةً مَحْضَةً لِصَاحِبِهِ كَالسِّكِّينِ وَاسْمُ الْكَلْبِ يَقَعُ عَلَى كُلِّ سَبُعٍ حَتَّى الْأَسَدِ، وَاسْتَثْنَى الثَّانِي مِنْ الْجَوَازِ اصْطِيَادَ السَّبُعِ وَالدُّبِّ لِأَنَّهُمَا لَا يَعْمَلَانِ لِغَيْرِهِمَا؛ الْأَسَدُ لِعُلُوِّ هِمَّتِهِ وَالدُّبُّ لِخَسَاسَتِهِ كَذَا فِي الْهِدَايَةِ وَذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ الذِّئْبَ بَدَلَ الدُّبِّ وَلِأَنَّ التَّعَلُّمَ يُعْرَفُ بِتَرْكِ الْأَكْلِ وَهُمَا لَا يَأْكُلَانِ الصَّيْدَ فِي الْحَالِ فَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَال بِتَرْكِ الْأَكْلِ عَلَى التَّعْلِيمِ حَتَّى لَوْ تُصُوِّرَ التَّعْلِيمُ مِنْهُمَا وَعُرِفَ ذَلِكَ جَازَ ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ وَأَلْحَقَ بَعْضُهُمْ الْحِدَأَةَ بِهِمَا لِخَسَاسَتِهَا، وَالْخِنْزِيرُ مُسْتَثْنًى مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ وَفِي الْمُحِيطِ قَالُوا لَا يَجُوزُ الِاصْطِيَادُ بِالْأَسَدِ وَالذِّئْبِ؛ لِأَنَّ الْأَسَدَ لَا يَعْمَلُ لِغَيْرِهِ وَإِنَّمَا يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ، وَالذِّئْبَ مِثْلُهُ أَيْضًا. قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ:
[شُرُوط حَلَّ الصَّيْد]
وَإِنَّمَا يَحِلُّ الصَّيْدُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ شَرْطًا: خَمْسَةٌ فِي الصَّائِدِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ، وَأَنْ يُوجَدَ مِنْهُ الْإِرْسَالُ وَلَا يُشَارِكَهُ فِي الْإِرْسَالِ مَنْ لَا يَحِلُّ صَيْدُهُ، وَأَنْ لَا يَتْرُكَ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا وَلَا يَشْتَغِلَ بَيْنَ الْإِرْسَالِ وَالْأَخْذِ بِعَمَلٍ. وَخَمْسَةٌ فِي الْكَلْبِ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُعَلَّمًا، وَأَنْ يَذْهَبَ عَلَى سُنَنِ الْإِرْسَالِ، وَأَنْ لَا يُشَارِكَهُ فِي الْأَخْذِ مَنْ لَا يَحِلُّ صَيْدُهُ، وَأَنْ يَقْتُلَهُ جَرْحًا، وَأَنْ لَا يَأْكُلَ مِنْهُ. وَخَمْسَةٌ فِي الصَّيْدِ مِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مُتَقَوِّيًا بِأَنْيَابِهِ أَوْ بِمِخْلَبِهِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مِنْ الْحَشَرَاتِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مِنْ بَنَاتِ الْمَاءِ سِوَى السَّمَكِ، وَأَنْ يَمْنَعَ نَفْسَهُ بِجَنَاحِهِ أَوْ مِخْلَبِهِ، وَأَنْ يَمُوتَ بِهَذَا قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى ذَبْحِهِ اهـ.
وَذَكَرَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ وَغَايَةِ الْبَيَانِ نَقْلًا عَنْ الْخُلَاصَةِ: وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ قَوْلَهُ " وَأَنْ يَمُوتَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى ذَبْحِهِ " مُسْتَدْرَكٌ بَعْدَ قَوْلِهِ، وَأَنْ يَقْتُلَهُ جَرْحًا وَأُجِيبَ بِأَنْ لَا اسْتِدْرَاكَ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي أُرِيدَ بِقَوْلِهِ " وَأَنْ يَقْتُلَهُ جَرْحًا " لَيْسَ مُجَرَّدَ قَتْلِهِ بَلْ قَتْلُهُ جَرْحًا وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الِاحْتِرَازُ عَنْ قَتْلِهِ خَنْقًا، وَالشَّرْطُ الَّذِي أُرِيدَ بِقَوْلِهِ " وَأَنْ يَمُوتَ بِهَذَا قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى ذَبْحِهِ " لِجَوَازِ أَنْ يَقْتُلَهُ الْكَلْبُ جَرْحًا بَعْدَ أَنْ يَصِلَ الْمُرْسِلُ إلَى ذَبْحِهِ فَحِينَئِذٍ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الشَّرْطِ الْآخَرِ أَيْضًا عَلَى الِاسْتِقْلَالِ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: فِيمَا نَقَلَهُ صَاحِبُ الْخُلَاصَةِ تَسَامُحٌ؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطُ الِاصْطِيَادِ لِلْأَكْلِ بِالْكَلْبِ لَا غَيْرِهِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ انْتَقَى بَعْضَهُ لَمْ يَحْرُمْ كَمَا لَوْ اشْتَغَلَ بِعَمَلٍ غَيْرِهِ لَكِنْ أَدْرَكَهُ حَيًّا فَذَبَحَهُ وَكَذَا لَوْ لَمْ يَمُتْ بِهَذَا لَكِنْ ذَبَحَهُ فَإِنَّهُ صَيْدٌ وَهُوَ حَلَالٌ اهـ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ فِي الصَّيْدِ الْمَحْضِ وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُدْرِكْهُ حَيًّا أَمَّا الَّذِي أَدْرَكَهُ فَذَكَّاهُ بِالذَّكَاةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ فَلَيْسَ صَيْدًا مَحْضًا بَلْ يُلْحَقُ بِهِ. اهـ.
وَالْمُرَادُ بِقَوْلِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ شَرْطُ الِاصْطِيَادِ أَيْ حَالُ الِاصْطِيَادِ، وَفِي التَّعْبِيرِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ظُهُورِ الْمُرَادِ لَا يُبَالَى بِمِثْلِهِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْلِيمِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ} [المائدة: ٤] وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لِأَبِي ثَعْلَبَةَ مَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ فَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ غَيْرِ الْمُعَلَّمِ فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَكُلْ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَأَحْمَدُ وَلِذَا لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُرْسِلُ أَهْلًا لِلذَّكَاةِ بِأَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا أَوْ كِتَابِيًّا وَيَعْقِلَ التَّسْمِيَةَ وَيَضْبِطَ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الذَّبَائِحِ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَذَا بِتَرْكِ الْأَكْلِ ثَلَاثًا فِي الْكَلْبِ وَبِالرُّجُوعِ إذَا دَعَوْتَهُ فِي الْبَازِي) أَيْ التَّعْلِيمُ فِي الْكَلْبِ يَكُونُ بِتَرْكِ الْأَكْلِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَفِي الْبَازِي فِي الرُّجُوعِ إذَا دُعِيَ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَلِأَنَّ بَدَنَ الْكَلْبِ يَحْتَمِلُ الضَّرْبَ فَيُمْكِنُ ضَرْبُهُ حَتَّى يَتْرُكَ الْأَكْلَ، وَبَدَنَ الْبَازِي لَا يَحْتَمِلُ الضَّرْبَ فَلَا يُمْكِنُ تَحْقِيقُ هَذَا الشَّرْطِ فِيهِ فَاكْتُفِيَ بِغَيْرِهِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى التَّعْلِيمِ وَلِأَنَّ آيَةَ التَّعْلِيمِ تَرْكُ مَا هُوَ مَأْلُوفُهُ عَادَةً، وَعَادَةُ الْبَازِي التَّوَحُّشُ وَالِاسْتِنْفَادُ، وَعَادَةُ الْكَلْبِ الِانْتِهَابُ وَالِاسْتِلَابُ لِائْتِلَافِهِ بِالنَّاسِ فَإِذَا تَرَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَأْلُوفَهُ دَلَّ عَلَى تَعْلِيمِهِ وَانْتِهَاءِ عِلْمِهِ وَهَذَا الْفَرْقُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute