يَفْسَخَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَإِنَّمَا جَمَعَ بَيْنَ هَذِهِ الْأُمُورِ لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ثُبُوتِ الدَّيْنِ بَيْنَ الْعِيَانِ وَالْبَيَانِ وَالْإِقْرَارِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ الدَّيْنُ فِي الْكُلِّ فَيُحْبَسُ عَلَيْهِ وَيُلَازَمُ عَلَيْهِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى، قَالَ الشَّارِحُ وَيَحْصُلُ الْفَسْخُ بِالرَّفْعِ إلَى الْقَاضِي وَالْقَضَاءِ بِهِ، وَقِيلَ بِيعَ أَوَّلًا فَيَحْصُلُ الْفَسْخُ فِي ضِمْنِ الْبَيْعِ.
[اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِلسَّفَرِ فَبَدَا لَهُ مِنْهُ رَأْيٌ لَا لِلْمُكَارِي]
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (أَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِلسَّفَرِ فَبَدَا لَهُ مِنْهُ رَأْيٌ لَا لِلْمُكَارِي) يَعْنِي لَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيُسَافِرَ عَلَيْهَا، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ لَا يُسَافِرَ فَهُوَ عُذْرٌ يُفْسَخُ بِهِ، وَلَوْ بَدَا لِلْمُكَارِي لَا يُعْذَرُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَلْزَمُهُ ضَرُورَةٌ وَمَشَقَّةٌ وَرُبَّمَا يَفُوتُهُ مَا قَصَدَ كَالْحَجِّ، وَطَلَبُ الْغَرِيمِ وَالْمُكَارِي لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ الضَّرَرُ؛ وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْعُدَ وَيُرْسِلَ غَيْرَهُ، وَكَذَا لَوْ مَرِضَ لِمَا ذَكَرْنَا، وَرَوَى الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ عُذْرٌ فِي حَقِّ الْمُكَارِي؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرُو عَنْ ضَرَرٍ؛ وَلِأَنَّ غَيْرَهُ لَا يُشْفِقُ عَلَى دَوَابِّهِ مِثْلَهُ وَقَوْلُهُ دَابَّةً وَبَدَا لَهُ مِنْهُ مِثَالٌ قَالَ فِي الْأَصْلِ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا لِيَخْدُمَهُ فِي الْمِصْرِ وَدَارًا يَسْكُنُهَا، ثُمَّ بَدَا لَهُ السَّفَرُ فَهُوَ عُذْرٌ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ بِهِ، وَلَوْ بَدَا لِرَبِّ الْعَبْدِ أَوْ الدَّار، فَلَيْسَ بِعُذْرٍ فَلَا يُفْسَخُ فَإِنْ قَالَ الْمُؤَجِّرُ لِلْقَاضِي إنَّهُ لَا يُرِيدُ السَّفَرَ، وَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنَا أُرِيدُ السَّفَرَ فَالْقَاضِي يَقُولُ لِلْمُسْتَأْجِرِ مَعَ مَنْ تُسَافِرُ فَإِنْ قَالَ مَعَ فُلَانٍ وَفُلَانٍ فَالْقَاضِي يَسْأَلُهُمَا هَلْ يَخْرُجُ مَعَكُمْ الْمُسْتَأْجِرُ وَهَلْ اسْتَعَدَّ لِلسَّفَرِ فَإِنْ قَالَا نَعَمْ ثَبَتَ الْعُذْرُ وَإِنْ قَالَا لَا فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُحَلِّفُ الْمُسْتَأْجِرَ بِاَللَّهِ أَنَّك عَزَمْت عَلَى السَّفَرِ وَإِلَيْهِ مَالَ الْكَرْخِيُّ وَالْقُدُورِيُّ فَلَوْ خَرَجَ مِنْ الْمِصْرِ، ثُمَّ عَادَ يُحَلَّفُ بِاَللَّهِ قَدْ خَرَجْت قَاصِدًا لِلسَّفَرِ الَّذِي ذَكَرْت كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ وَغَيْرِهَا وَفِي الْخُلَاصَةِ فَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ السَّفَرَ، وَلَكِنْ وَجَدَ أَرْخَصَ مِنْهَا فَهَذَا لَيْسَ بِعُذْرٍ، وَلَوْ اشْتَرَى مَنْزِلًا وَأَرَادَ التَّحَوُّلَ فِيهَا فَهَذَا لَيْسَ بِعُذْرٍ، وَلَوْ اشْتَرَى إبِلًا فَهُوَ عُذْرٌ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَوْ أَحْرَقَ حَصَائِدَ أَرْضٍ مُسْتَأْجَرَةٍ أَوْ مُسْتَعَارَةٍ فَاحْتَرَقَ شَيْءٌ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ) حَصْدُ الزَّرْعِ جَزُّهُ وَالْحَصَائِدُ جَمْعُ حَصِيدَةٍ وَحَصِيدٍ وَهُمَا الزَّرْعُ الْمَحْصُودُ وَالْمُرَادُ هُنَا مَا يَبْقَى مِنْ أَصْلِ الزَّرْعِ فِي الْأَرْضِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ حَقُّهَا أَنْ تُذْكَرَ فِي الْجِنَايَاتِ وَلِهَذَا ذَكَرَ فِي الْهِدَايَةِ مَسَائِلَ مَنْثُورَةً وَإِنَّمَا لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تَسَبُّبٌ وَشَرْطُ الضَّمَانِ التَّعَدِّي وَلَمْ يُوجَدْ فَصَارَ كَمَا لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ فَتَلِفَ بِهِ إنْسَانٌ بِخِلَافِ مَا إذَا رَمَى سَهْمًا فِي مِلْكِهِ فَأَصَابَ إنْسَانًا حَيْثُ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ مُبَاشِرٌ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعَدِّي؛ لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ عِلَّةٌ فَلَا يَبْطُلُ حُكْمُهَا بِعُذْرٍ وَالسَّبَبُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعَدِّي لِيَلْتَحِقَ بِالْعِلَّةِ وَإِحْرَاقُ الْحَصَائِدِ فِي مِثْلِهِ مُبَاحٌ فَلَا يُضَافُ التَّلَفُ إلَيْهِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ هَذَا إذَا كَانَتْ الرِّيَاحُ غَيْرَ مُضْطَرِبَةٍ فَلَوْ كَانَتْ مُضْطَرِبَةً يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَا تَسْتَقِرُّ فَلَا يُعْذَرُ فَيَضْمَنُ وَفِي الْخَانِيَّةِ لَوْ كَانَتْ الرِّيحُ غَيْرَ سَاكِنَةٍ يَضْمَنُ اسْتِحْسَانًا وَذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ مَعْزِيًّا إلَى التُّمُرْتَاشِيِّ لَوْ وَضَعَ جَمْدَةً فِي الطَّرِيقِ فَأَحْرَقَتْ شَيْئًا ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالْوَضْعِ، وَلَوْ رَفَعَتْهُ الرِّيحُ إلَى شَيْءٍ فَأَحْرَقَتْهُ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الرِّيحَ نَسَخَتْ فِعْلَهُ.
وَلَوْ أَخْرَجَ الْحَدَّادُ الْحَدِيدَ مِنْ النَّارِ فِي مَكَانِهِ فَوَضَعَهُ عَلَى مَا يَطْرُقُ عَلَيْهِ وَضَرَبَهُ بِالْمِطْرَقَةِ وَخَرَجَ شِرَارُ النَّارِ إلَى طَرِيقِ الْعَامَّةِ وَأَحْرَقَ شَيْئًا ضَمِنَ، وَلَوْ لَمْ يَضْرِبْهُ، وَلَكِنْ أَخْرَجَ الرِّيحُ شَيْئًا فَأَحْرَقَ شَيْئًا لَمْ يَضْمَنْ، وَلَوْ سَقَى أَرْضَهُ سَقْيًا لَا تَحْتَمِلُهُ الْأَرْضُ فَتَعَدَّى إلَى أَرْضِ غَيْرِهِ ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُنْتَفِعًا بِمَا فَعَلَهُ، بَلْ مُتَعَدِّيًا قَالَ خواهر زاده وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ إذَا أَوْقَدْنَا نَارًا عَظِيمَةً فِي أَرْضِهِ بِحَيْثُ لَا تَحْتَمِلُهُ وَتَعَدَّى إلَى زَرْعِ غَيْرِهِ وَأَفْسَدَهُ يَضْمَنُ لَا مَحَالَةَ. اهـ.
وَفِي السَّفِينَةِ فَرَّقَ أَصْحَابُنَا بَيْنَ الْمَالِ وَالنَّارِ فَقَالَ إذَا أَوْقَدَ نَارًا عَظِيمَةً فِي أَرْضِ نَفْسِهِ فَتَعَدَّى فَأَحْرَقَ شَيْئًا لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ النَّارَ مِنْ شَأْنِهَا الْخُمُودُ بِخِلَافِ مَا إذَا مَلَأَ أَرْضَهُ مَاءً بِحَيْثُ لَا تَحْتَمِلُهُ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ مِنْ شَأْنِهِ السَّيَلَانُ وَفِي فَتَاوَى أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ أَوْقَدَ فِي التَّنُّورِ نَارًا لَا يَحْتَمِلُهُ فَأَحْرَقَ بَيْتَهُ وَتَعَدَّى إلَى بَيْتِ جَارِهِ فَأَحْرَقَهُ ضَمِنَ، وَفِي فَتَاوَى الْفَضْلِيِّ رَجُلٌ يَمُرُّ فِي مِلْكِهِ أَوْ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِنَارٍ فَوَقَعَتْ شَرَارَةٌ مِنْ نَارِهِ عَلَى ثَوْبِ إنْسَانٍ فَأَحْرَقَتْهُ ضَمِنَ، وَفِي النَّوَادِرِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَنْ مَرَّ بِالنَّارِ فِي مَوْضِعٍ لَهُ الْمُرُورُ فَهَبَّتْ الرِّيحُ فَأَوْقَعَتْ شَرَارَةً فِي مَالِ إنْسَانٍ لَا يَضْمَنُ وَإِنْ مَرَّ بِهَا فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ لَهُ حَقُّ الْمُرُورِ يُنْظَرُ إنْ هَبَّتْ بِهَا الرِّيحُ لَا يَضْمَنُ وَإِنْ وَقَعَتْ مِنْهُ شَرَارَةٌ ضَمِنَ وَفِي التَّتِمَّةِ سَأَلْت وَالِدِي عَنْ الْقَصَّارِ يَدُقُّ الثِّيَابَ فِي حَانُوتِهِ وَانْهَدَمَ حَائِطُ جَارِهِ هَلْ يَضْمَنُ فَقَالَ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ مُبَاشِرٌ.
[أَقْعَدَ خَيَّاطٌ أَوْ صَبَّاغٌ فِي حَانُوتِهِ مَنْ يَطْرَحُ عَلَيْهِ الْعَمَلَ بِالنِّصْفِ]
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَوْ أَقْعَدَ خَيَّاطٌ أَوْ صَبَّاغٌ فِي حَانُوتِهِ مَنْ يَطْرَحُ عَلَيْهِ الْعَمَلَ بِالنِّصْفِ صَحَّ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحَّ وَحَقُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ تُذْكَرَ فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ شَرِكَةُ الصَّنَائِعِ وَلَيْسَتْ بِإِجَارَةٍ؛ لِأَنَّ تَفْسِيرَ شَرِكَةِ الصَّنَائِعِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute