الْمَسْأَلَةُ يَكْثُرُ وُقُوعُهَا فِيمَنْ يُسَافِرُ فِي الْبَحْرِ الْمِلْحِ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْحَجِّ وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي وَسَطِ السَّنَةِ فَهَلْ لَهُ أَنْ يَقْصِدَ الْبَنْدَرَ الْمَعْرُوفَ بِجُدَّةِ لِيَدْخُلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ حَتَّى لَا يَطُولَ الْإِحْرَامُ عَلَيْهِ لَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَإِنَّ الْمَأْمُورَ بِالْحَجِّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ.
(قَوْلُهُ: وَصَحَّ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهَا لَا عَكْسُهُ) أَيْ جَازَ تَقْدِيمُ الْإِحْرَامِ عَلَى الْمَوَاقِيتِ وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْهَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: ١٩٦] وَفَسَّرَتْ الصَّحَابَةُ الْإِتْمَامَ بِأَنْ يُحْرِمَ بِهَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ وَمِنْ الْأَمَاكِنِ الْقَاصِيَةِ وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ أَهَلَّ مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بِحِجَّةٍ، أَوْ بِعُمْرَةٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَلَمْ يَتَكَلَّمُ الْمُصَنِّفُ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ التَّقْدِيمِ وَعَدَمِهَا لِمَا أَنَّ فِيهِ تَفْصِيلًا ذَكَرَهُ فِي الْكَافِي وَهُوَ أَنَّ التَّقْدِيمَ أَفْضَلُ إذَا كَانَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ أَنْ لَا يَقَعَ فِي مَحْظُورٍ؛ لِأَنَّ الْمَشَقَّةَ فِيهِ أَكْثَرُ فَكَانَ أَكْثَرَ ثَوَابًا؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ بِقَدْرِ التَّعَبِ بِخِلَافِ التَّقْدِيمِ عَلَى الْأَشْهُرِ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ مَكْرُوهٌ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَيْنَ خَوْفِ الْوُقُوعِ فِي مَحْظُورٍ، أَوْ لَا كَمَا أَطْلَقَهُ فِي الْمَجْمَعِ وَمَنْ فَصَّلَ كَصَاحِبِ الظَّهِيرِيَّةِ قِيَاسًا عَلَى الْمِيقَاتِ الْمَكَانِيِّ فَقَدْ أَخْطَأَ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ مُطْلَقًا قَبْلَ الْمِيقَاتِ الزَّمَانِيِّ شَبَّهَهُ بِالرُّكْنِ وَإِنْ كَانَ شَرْطًا فَيُرَاعَى مُقْتَضَى ذَلِكَ الشَّبَهِ احْتِيَاطًا، وَلَوْ كَانَ رُكْنًا حَقِيقَةً لَمْ يَصِحَّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَإِنْ كَانَ شَبِيهًا بِهِ كُرِهَ قَبْلَهَا لِشَبَهِهِ وَقُرْبِهِ مِنْ عَدَمِ الصِّحَّةِ وَلِشَبَهِ الرُّكْنِ لَمْ يَجُزْ لِفَائِتِ الْحَجِّ اسْتِدَامَةُ الْإِحْرَامِ لِيَقْضِيَ بِهِ مِنْ قَابِلٍ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا يُجَاوِزُ أَحَدٌ الْمِيقَاتَ إلَّا مُحْرِمًا» وَفَائِدَةُ التَّأْقِيتِ بِالْمَوَاقِيتِ الْخَمْسَةِ الْمَنْعُ مِنْ التَّأْخِيرِ.
(قَوْلُهُ: وَلِدَاخِلِهَا الْحِلُّ) أَيْ الْحِلُّ مِيقَاتُ مَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمَوَاقِيتِ وَهُوَ بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمَوَاضِعُ الَّتِي بَيْنَ الْمَوَاقِيتِ وَالْحَرَمِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِ الْمِيقَاتِ، أَوْ بَعْدَهُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ فِي كُتُبِهِ وَقَوْلُ الْمُحَقِّقِ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ الْمُتَبَادَرُ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْمَوَاقِيتِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ بَلْ الْمُتَبَادَرُ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِيهَا نَفْسِهَا وَهُوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِلْمُصَنِّفِينَ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْإِطْلَاقُ كَمَا ذَكَرْنَا وَإِنَّمَا كَانَ الْحِلُّ مِيقَاتَهُ؛ لِأَنَّ خَارِجَ الْحَرَمِ كُلَّهُ كَمَكَانٍ وَاحِدٍ فِي حَقِّهِ وَالْحَرَمُ حَدٌّ فِي حَقِّهِ كَالْمِيقَاتِ لِلْآفَاقِيِّ فَلَا يَدْخُلُ الْحَرَمَ عِنْدَ قَصْدِ النُّسُكِ إلَّا مُحْرِمًا وَأَمَّا عِنْدَ عَدَمِ هَذَا الْقَصْدِ فَلَهُ الدُّخُولُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ كَالْمَكِّيِّ إذَا خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ لِحَاجَةٍ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ كَالْآفَاقِيِّ فَإِنْ جَاوَزَهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ؛ لِأَنَّهُ صَارَ آفَاقِيًّا.
(قَوْلُهُ: وَلِلْمَكِّيِّ الْحَرَمُ لِلْحَجِّ وَالْحِلُّ لِلْعُمْرَةِ) أَيْ مِيقَاتُ الْمَكِّيِّ إذَا أَرَادَ الْحَجَّ الْحَرَمُ فَإِنْ أَحْرَمَ لَهُ مِنْ الْحِلِّ لَزِمَهُ دَمٌ وَإِذَا أَرَادَ الْعُمْرَةَ الْحِلُّ فَإِذَا أَحْرَمَ بِهَا مِنْ الْحَرَمِ
ــ
[منحة الخالق]
وَنَقَلَ فَتْوَاهُ فَرَاجِعْهَا اهـ.
مَا فِي الْحَاشِيَةِ مُلَخَّصًا أَقُولُ: وَفِي رَدِّهِ مَا ذَكَرَهُ السِّنْدِيُّ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَنْقُولَةٌ وَالْمُقَلِّدُ مُتَّبِعٌ لِلْمُجْتَهِدِ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ دَلِيلُهُ فَفِي التَّتَارْخَانِيَّة عَنْ الْمُحِيطِ وَلَوْ أَمَرَهُ بِالْحَجِّ فَاعْتَمَرَ ثُمَّ حَجَّ مِنْ مَكَّةَ فَهُوَ مُخَالِفٌ فِي قَوْلِهِمْ وَفِي الْخَانِيَّةِ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَنْ حِجَّةِ الْإِسْلَامِ عَنْ نَفْسِهِ وَكَذَا لَوْ حَجَّ ثُمَّ اعْتَمَرَ كَانَ مُخَالِفًا عِنْدَ الْعَامَّةِ وَفِي الْمُحِيطِ وَلَوْ أَمَرَهُ بِالْعُمْرَةِ فَاعْتَمَرَ أَوَّلًا ثُمَّ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا وَإِنْ حَجَّ أَوَّلًا ثُمَّ اعْتَمَرَ فَهُوَ مُخَالِفٌ اهـ.
فَلْيُتَأَمَّلْ فَقَدْ يُقَالُ إنَّهُ جُعِلَ مُخَالِفًا لِكَوْنِهِ أَحْرَمَ أَوَّلًا بِغَيْرِ مَا أُمِرَ بِهِ فَقَدْ جَعَلَ سَفَرَهُ لِنَفْسِهِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ إحْرَامِ الْمَأْمُورِ مِنْ الْمِيقَاتِ وَأَنَّهُ لَا يَقَعُ عَنْ الْآمِرِ وَإِنْ عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ إذَا لَمْ يَفْعَلْ أَوَّلًا نُسُكًا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ فَيَنْبَغِي التَّفْصِيلُ وَهُوَ أَنَّهُ إنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ بِلَا إحْرَامٍ قَاصِدًا الْبُسْتَانَ ثُمَّ دَخَلَ مَكَّةَ ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْحِلِّ وَقْتَ الْإِحْرَامِ فَأَحْرَمَ مِنْ الْمِيقَاتِ عَنْ الْآمِرِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ آفَاقِيًّا كَمَا يَأْتِي وَإِنْ فَعَلَ نُسُكًا غَيْرَ مَا أُمِرَ بِهِ قَبْلَ إحْرَامِهِ عَنْ الْآمِرِ يَكُونُ مُخَالِفًا وَإِنْ عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ وَأَحْرَمَ عَنْهُ مِنْ الْمِيقَاتِ فَتَأَمَّلْ.
[تَقْدِيمُ الْإِحْرَامِ عَلَى الْمَوَاقِيتِ]
(قَوْلُهُ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ مَكْرُوهٌ إلَخْ) كَذَا نَقَلَ الْقُهُسْتَانِيُّ الْإِجْمَاعَ عَنْ التُّحْفَةِ ثُمَّ قَالَ وَفِي الْمُحِيطِ إنْ أَمِنَ مِنْ الْوُقُوعِ فِي مَحْظُورِ الْإِحْرَامِ لَا يُكْرَهُ وَفِي النَّظْمِ عَنْهُ أَنَّهُ يُكْرَهُ إلَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ.
(قَوْلُهُ فَلَا يَدْخُلُ الْحَرَمَ عِنْدَ قَصْدِ النُّسُكِ إلَّا مُحْرِمًا) قَالَ الْعَلَّامَةُ الشَّيْخُ قُطْبُ الدِّينِ فِي مَنْسَكِهِ وَمِمَّا يَجِبُ التَّيَقُّظُ لَهُ سُكَّانُ جُدَّةَ بِالْجِيمِ وَأَهْلُ حِدَّةَ بِالْمُهْمَلَةِ وَأَهْلُ الْأَوْدِيَةِ الْقَرِيبَةِ مِنْ مَكَّةَ فَإِنَّهُمْ فِي الْأَغْلَبِ يَأْتُونَ إلَى مَكَّةَ فِي سَادِسِ ذِي الْحِجَّةِ أَوْ فِي السَّابِعِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَيُحْرِمُونَ مِنْ مَكَّةَ لِلْحَجِّ فَعَلَى مَنْ كَانَ حَنَفِيًّا مِنْهُمْ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ الْحَرَمَ وَإِلَّا فَعَلَيْهِ دَمٌ لِمُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ لَكِنْ لِلنَّظَرِ هُنَا مَجَالٌ إذَا أَحْرَمَ هَؤُلَاءِ مِنْ مَكَّةَ كَمَا هُوَ مُعْتَادُهُمْ وَتَوَجَّهُوا إلَى عَرَفَةَ يَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُمْ دَمُ الْمُجَاوَزَةِ بِوُصُولِهِمْ إلَى أَوَّلِ الْحِلِّ مُلَبِّينَ؛ لِأَنَّهُ عَوْدٌ مِنْهُمْ إلَى مِيقَاتِهِمْ مَعَ الْإِحْرَامِ وَالتَّلْبِيَةِ وَذَلِكَ مُسْقِطٌ لِدَمِ الْمُجَاوَزَةِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ لَا يُعَدُّ هَذَا عَوْدًا مِنْهُمْ إلَى الْمِيقَاتِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا الْعَوْدَ إلَيْهِ لِتَلَافِي مَا لَزِمَهُمْ بِالْمُجَاوَزَةِ بَلْ قَصَدُوا التَّوَجُّهَ إلَى عَرَفَةَ وَلَمْ أَجِدْ مَنْ تَعَرَّضَ لِذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ اهـ.
وَقَدْ نَقَلَهُ الشَّيْخُ عَبْدُ اللَّهِ الْعَفِيفُ فِي شَرْحِهِ وَأَقَرَّهُ وَقَالَ الْقَاضِي مُحَمَّدٌ عِيدٌ فِي شَرْحِ مَنْسَكِهِ وَالظَّاهِرُ السُّقُوطُ؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ إلَى الْمِيقَاتِ مَعَ التَّلْبِيَةِ مُسْقِطٌ سَوَاءٌ نَوَى الْعَوْدَ أَوْ لَمْ يَنْوِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ التَّعْظِيمُ اهـ.
كَذَا فِي حَاشِيَةِ الْمَدَنِيِّ عَلَى الدُّرِّ الْمُخْتَارِ.
[مِيقَاتُ الْمَكِّيِّ إذَا أَرَادَ الْحَجَّ] .