تَرْجِيحَ الْآخَرِ عَلَيْهِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُصَدَّقَا مَعًا قَالَ الرَّاجِي عَفْوَ رَبِّهِ: الْأَشْبَهُ أَنْ تَكُونَ كَالذِّمِّيَّةِ تَجُوزُ وَصِيَّتُهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ وَلِهَذَا يَجُوزُ جَمِيعُ تَصَرُّفَاتِهَا وَكَذَا الْوَصِيَّةُ كَأَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: صَاحِبُ الْكِتَابِ صَاحِبَ الْهِدَايَةِ وَذَكَرَ السِّغْنَاقِيُّ أَنَّ مَنْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ إلَى النَّصْرَانِيَّةِ أَوْ الْيَهُودِيَّةِ أَوْ الْمَجُوسِيَّةِ فَحُكْمُ وَصَايَاهُ حُكْمُ مَنْ انْتَقَلَ إلَيْهِمْ فَمَا صَحَّ مِنْهُمْ صَحَّ مِنْهُ وَهَذَا عِنْدَهُمَا، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَوَصِيَّتُهُ مَوْقُوفَةٌ وَوَصَايَا الْمُرْتَدَّةِ نَافِذَةٌ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ عِنْدَنَا، وَقَالَ قَاضِي خَانْ: الْمُرْتَدَّةُ الصَّحِيحُ أَنَّهَا كَالذِّمِّيَّةِ فَيَجُوزُ مِنْهَا مَا جَازَ مِنْ الذِّمِّيَّةِ وَمَا لَا فَلَا، وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ مَا إذَا أَوْصَى الْحَرْبِيُّ لِمُسْلِمٍ فَلِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلتَّمْلِيكِ مُنَجِّزًا كَالْهِبَةِ وَنَحْوِهَا فَكَذَا مُضَافًا.
وَلَوْ أَوْصَى بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ أَوْ بِمَالِهِ كُلِّهِ جَازَ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْوَصِيَّةِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لَحِقَ الْوَرَثَةَ، وَلَيْسَ لِوَرَثَتِهِ حَقٌّ شَرْعِيٌّ؛ لِأَنَّهُمْ أَمْوَاتٌ فِي حَقِّنَا وَلِأَنَّ حُرْمَةَ مَالِهِ بِاعْتِبَارِ الْأَمَانِ، وَالْأَمَانُ كَانَ لِحَقِّهِ لَا لِحَقِّ وَرَثَتِهِ وَلَيْسَ لِوَرَثَتِهِ حَقٌّ شَرْعِيٌّ وَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ فَيَجُوزُ وَقِيلَ إذَا كَانَ وَرَثَتُهُ مَعَهُ لَا يَجُوزُ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ إلَّا بِإِجَازَةٍ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ بِالْأَمَانِ الْتَزَمَ أَحْكَامَنَا، فَصَارَ
كَالذِّمِّيِّ. وَلَوْ أَوْصَى بِبَعْضِ مَالِهِ نَفَذَتْ الْوَصِيَّةُ فِي الثُّلُثِ وَرَدَّ الْبَاقِي لِوَرَثَتِهِ وَكَذَا لَوْ أَوْصَى لِمُسْتَأْمَنٍ مِثْلِهِ وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ أَوْ دَبَّرَهُ جَازَ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالثُّلُثِ لِمَا بَيَّنَّا وَكَذَا إذَا أَوْصَى لَهُ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ بِوَصِيَّةٍ جَازَ؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ كَالذِّمِّيِّ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَلِهَذَا تَصِحُّ عُقُودُ التَّمْلِيكَاتِ مِنْهُ وَتَبَرُّعَاتُهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ فَكَذَا عِنْدَ مَمَاتِهِ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَصِيَّةٌ الذِّمِّيِّ لِلْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ لَا تَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ فِي دَارِهِمْ حُكْمًا حَتَّى يُمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَيْهَا، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ مُبْتَدَأٌ وَلِهَذَا يَجُوزُ لِلذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّهُمْ الْتَزَمُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ.
وَلَوْ أَوْصَى لِخِلَافِ مِلَّتِهِ جَازَ اعْتِبَارًا بِالْإِرْثِ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَوْ أَوْصَى لِحَرْبِيٍّ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْإِرْثَ مُمْتَنِعٌ كَتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ فَكَذَا الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهَا أُخْتُهُ وَعَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يَنْبَغِي أَنْ تَجُوزَ كَالْمُسْلِمِ وَلَوْ أَوْصَى لِمُسْتَأْمَنٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي الْمُسْلِمِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[بَابُ الْوَصِيِّ وَمَا يَمْلِكُهُ]
(بَابُ الْوَصِيِّ وَمَا يَمْلِكُهُ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ الْمُوصَى لَهُ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْمُوصِي إلَيْهِ وَهُوَ الْوَصِيُّ وَقَدَّمَ أَحْكَامَ الْمُوصَى لَهُ لِكَثْرَتِهَا وَكَثْرَةِ وُقُوعِهَا فَكَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى مَعْرِفَتِهَا أَمَسَّ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَوْ أَوْصَى إلَى رَجُلٍ فَقَبِلَ عِنْدَهُ وَرَدَّ عِنْدَهُ يَرْتَدُّ) يَعْنِي قَبِلَ عِنْدَ الْمُوصِي؛ لِأَنَّ الْمُوصِيَ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ إلْزَامِهِ التَّصَرُّفَ وَلَا عُذْرَ مِنْ جِهَتِهِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُوَصِّيَ إلَى غَيْرِهِ قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: الْمُرَادُ بِعِنْدِهِ يَعْنِي بِعِلْمِهِ وَرَدَّهُ بِغَيْرِ عِلْمِهِ سَوَاءٌ كَانَ عِنْدَهُ أَوْ فِي مَجْلِسٍ غَيْرِهِ، قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ مَسَائِلُهُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى فُصُولِ فَصْلٍ فِي حَقِّ الْإِيصَاءِ وَكَيْفِيَّتُهُ، وَفَصْلٍ فِي قَبُولِهِ وَرَدِّهِ، وَفَصْلٍ فِيمَنْ يَجُوزُ إلَيْهِ الْإِيصَاءُ وَمَنْ لَا يَجُوزُ، وَفَصْلٍ فِي عَزْلِهِ الرَّجُلَ إذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ يَنْبَغِي أَنْ يُوَصِّيَ وَيَكْتُبَ وَصِيَّتَهُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يَبِيتُ إلَّا وَوَصِيَّتُهُ تَحْتَ رَأْسِهِ» وَيَكْتُبُ كِتَابَ الْوَصِيَّةِ هَذَا مَا أَوْصَى فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ فَإِنَّهُ يَشْهَدُ: أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا اعَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ، وَالنَّارَ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، وَأَنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْت وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ أَيْ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلِمَتِهِ شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» ثُمَّ يَكْتُبُ وَأَنَا الْعَبْدُ الْمُذْنِبُ الضَّعِيفُ الْمُفَرِّطُ فِي طَاعَتِهِ الْمُقَصِّرُ فِي خِدْمَتِهِ الْمُفْتَقِرُ إلَى رَحْمَتِهِ الرَّاجِي لِفَضْلِهِ، وَالْهَارِبُ مِنْ عَدْلِهِ تَرَكَ مِنْ الْمَالِ الصَّامِتِ كَذَا، وَمِنْ الرَّقِيقِ كَذَا وَمِنْ الدُّورِ كَذَا وَعَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ.
كَذَا إنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَيُسَمِّي الْغَرِيمَ وَاسْمَ أَبِيهِ كَيْ لَا تَجْحَدَ الْوَرَثَةُ دَيْنَهُ فَيَبْقَى الْمَيِّتُ تَحْتَ عُهْدَتِهِ وَيَكْتُبُ إنْ مِتّ مِنْ مَرَضِي هَذَا فَأَوْصَيْت بِأَنْ يُصْرَفَ مَالِي إلَى وُجُوهِ الْخَيْرَاتِ وَأَبْوَابِ الْبِرِّ تَدَارُكًا لِمَا فَرَّطَ فِي حَيَاتِهِ وَتَزَوُّدًا وَذُخْرًا لِآخِرَتِهِ وَأَنَّهُ أَوْصَى إلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ لِيَقُومَ بِقَضَاءِ دُيُونِهِ وَتَنْفِيذِ وَصِيَّتِهِ وَتَمْهِيدِ أَسْبَابِ وَرَثَتِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا يَتَقَاعَدَ فِي أُمُورِهِ فِي وَصِيَّتِهِ وَلَا يَتَقَاصَرَ عَنْ إيفَاءِ حُقُوقِهِ وَاسْتِيفَائِهِ فَإِنْ تَقَاعَدَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَسِيبٌ عَلَيْهِ وَيَشْهَدُ عَلَى ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَصِحُّ الْإِشْهَادُ إذَا عَلِمَ الشُّهُودُ بِمَا فِي الصَّكِّ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِدُونِ الْعِلْمِ لَا تَجُوزُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلشَّاهِدِ «إذَا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلَّا فَدَعْ» ، وَلَوْ قَالَ الشُّهُودُ بَعْدَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute