الْقَضَاءُ لِلْحَرَجِ وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ الْكَشْفِ فَقَالَ: إنَّ الْمَجْنُونَ أَهْلٌ لِلْوُجُوبِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ عَنْهُ عِنْدَ تَضَاعُفِ الْوَاجِبَاتِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ وَاعْتُبِرَ الْحَرَجُ فِي حَقِّ الصَّوْمِ بِاسْتِغْرَاقِ الْجُنُونِ جَمِيعَ الشَّهْرِ اهـ.
وَفِي الْبَدَائِعِ وَأَمَّا الْعَقْلُ فَهَلْ هُوَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ وَكَذَا الْإِفَاقَةُ وَالْيَقَظَةُ قَالَ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا: لَيْسَتْ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ بَلْ مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ مُسْتَدِلِّينَ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمِ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ وَالِانْتِبَاهِ بَعْدَ مُضِيِّ بَعْضِ الشَّهْرِ أَوْ كُلِّهِ وَكَذَا الْمَجْنُونُ إذَا أَفَاقَ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّحْقِيقِ مِنْ مَشَايِخِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ: إنَّهُ شَرْطُ الْوُجُوبِ وَعِنْدَهُمْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ وَأَجَابُوا عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْعَامَّةُ بِأَنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ لَا يَسْتَدْعِي سَابِقَةَ الْوُجُوبِ لَا مَحَالَةَ وَإِنَّمَا يَسْتَدْعِي فَوْتَ الْعِبَادَةِ عَنْ وَقْتِهَا، وَالْقُدْرَةَ عَلَى الْقَضَاءِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ
وَهَكَذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الطَّهَارَةِ عَنْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ فَذَهَبَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ إلَى أَنَّهَا شَرْطُ الْوُجُوبِ فَلَا وُجُوبَ عَلَى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ، وَقَضَاءُ الصَّوْمِ لَا يَسْتَدْعِي سَابِقَةَ الْوُجُوبِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَعِنْدَ الْعَامَّةِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ، وَإِنَّمَا الطَّهَارَةُ عَنْهُمَا شَرْطُ الْأَدَاءِ، وَتَمَامُهُ فِي الْبَدَائِعِ وَلَعَلَّهُ لَا ثَمَرَةَ لَهُ، وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الشَّرَائِطِ شَرْطُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ، وَهُوَ الصِّحَّةُ وَالْإِقَامَةُ وَالثَّالِثُ شَرْطُ صِحَّتِهِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَالطَّهَارَةُ عَنْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، وَالنِّيَّةُ كَذَا فِي الْبَدَائِعِ وَاقْتَصَرَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ عَلَى مَا عَدَا الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا نِيَّةَ لَهُ بِاشْتِرَاطِهَا، وَلَمْ يَجْعَلُوا الْعَقْلَ وَالْإِفَاقَةَ شَرْطَيْنِ لِلصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ مَنْ نَوَى الصَّوْمَ مِنْ اللَّيْلِ ثُمَّ جُنَّ فِي النَّهَارِ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ يَصِحُّ صَوْمُهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَصِحَّ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي لِعَدَمِ النِّيَّةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْمَجْنُونِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ لَا تُتَصَوَّرُ لَا لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ، وَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الصِّحَّةِ لِصِحَّتِهِ مِنْ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ؛ وَلِهَذَا يُثَابُ عَلَيْهِ كَذَا فِي الْبَدَائِعِ وَزَادَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ الْعِلْمَ بِالْوُجُوبِ أَوْ الْكَوْنَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِفَرْضِيَّةِ رَمَضَانَ ثُمَّ عَلِمَ لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ مَا مَضَى وَزَادَ فِي النِّهَايَةِ عَلَى شَرَائِطِ الصِّحَّةِ الْوَقْتَ الْقَابِلَ لِيَخْرُجَ اللَّيْلُ، وَفِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِالنَّهَارِ دَاخِلٌ فِي مَفْهُومِ الصَّوْمِ لَا قَيْدٌ لَهُ؛ وَلِهَذَا كَانَ التَّحْقِيقُ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْقَضَاءَ وَالنَّذْرَ الْمُطْلَقَ وَصَوْمَ الْكَفَّارَةِ مِنْ قَبِيلِ الْمُطْلَقِ عَنْ الْوَقْتِ لَا مِنْ الْمُقَيَّدِ بِهِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ فَخْرُ الْإِسْلَامِ، وَحُكْمُهُ سُقُوطُ الْوَاجِبِ، وَنَيْلُ ثَوَابِهِ إنْ كَانَ صَوْمًا لَازِمًا، وَإِلَّا فَالثَّانِي كَذَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ، وَفِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّ صَوْمَ الْأَيَّامِ الْمَنْهِيَّةِ لَا ثَوَابَ فِيهِ فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ وَإِلَّا فَالثَّانِي إنْ لَمْ يَكُنْ مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَإِلَّا فَالصِّحَّةُ فَقَطْ.
وَأَقْسَامُهُ فَرْضٌ وَوَاجِبٌ وَمَسْنُونٌ وَمَنْدُوبٌ وَنَفْلٌ وَمَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا وَتَحْرِيمًا فَالْأَوَّلُ رَمَضَانُ وَقَضَاؤُهُ وَالْكَفَّارَاتُ وَالْوَاجِبُ الْمَنْذُورُ وَالْمَسْنُونُ عَاشُورَاءُ مَعَ التَّاسِعِ، وَالْمَنْدُوبُ صَوْمُ ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَيَنْدُبُ فِيهَا كَوْنُهَا الْأَيَّامَ الْبِيضَ وَكُلُّ صَوْمٍ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ طَلَبُهُ وَالْوَعْدُ عَلَيْهِ كَصَوْمِ دَاوُد - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالنَّفَلُ مَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَثْبُتْ كَرَاهَتُهُ وَالْمَكْرُوهُ تَنْزِيهًا عَاشُورَاءُ مُفْرَدًا عَنْ التَّاسِعِ، وَنَحْوُ يَوْمِ الْمِهْرَجَانِ وَتَحْرِيمًا أَيَّامُ التَّشْرِيقِ وَالْعِيدَيْنِ كَذَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَاسْتَثْنَى فِي عُمْدَةِ الْفَتَاوَى مِنْ كَرَاهَةِ صَوْمِ يَوْمِ النَّيْرُوزِ وَالْمِهْرَجَانِ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا قَبْلَهُ فَلَا يُكْرَهُ كَمَا فِي يَوْمِ الشَّكِّ وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَضُمَّ الْمَنْذُورَ بِقِسْمَيْهِ إلَى الْمَفْرُوضِ كَمَا اخْتَارَهُ فِي الْبَدَائِعِ وَالْمَجْمَعِ وَرَجَّحَهُ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى لُزُومِهِ وَأَنْ يَجْعَلَ قِسْمَ الْوَاجِبِ صَوْمَ التَّطَوُّعِ
ــ
[منحة الخالق]
فَلْيُتَأَمَّلْ.
[شُرُوط الصِّيَامِ]
(قَوْلُهُ: وَزَادَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ إلَخْ) أَيْ فِي شَرَائِطِ الْوُجُوبِ (قَوْلُهُ: وَفِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّ صَوْمَ الْأَيَّامِ الْمَنْهِيَّةِ لَا ثَوَابَ فِيهِ) قَالَ فِي النَّهْرِ ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ كَمَا سَيَأْتِي أَنَّ النَّهْيَ فِيهَا لِمَعْنًى مُجَاوِرٍ، وَهُوَ الْإِعْرَاضُ عَنْ الضِّيَافَةِ يُفِيدُ أَنَّ فِيهِ ثَوَابًا كَالصَّلَاةِ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ.
[أَقْسَام الصَّوْمِ]
(قَوْلُهُ: لِلْإِجْمَاعِ عَلَى لُزُومِهِ) اعْلَمْ أَنَّ مَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ اسْتَدَلَّ بِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: ٢٩] خُصَّ مِنْهُ النَّذْرُ بِالْمَعْصِيَةِ، وَمَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ كَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَمَا لَيْسَ مَقْصُودًا لِذَاتِهِ بَلْ لِغَيْرِهِ كَالْوُضُوءِ فَصَارَ ظَنِّيًّا كَالْآيَةِ الْمُؤَوَّلَةِ فَأَفَادَ الْوُجُوبَ قَالَ فِي النَّهْرِ: وَفِي عُدُولِ الْمُحَقِّقِ إلَى الْإِجْمَاعِ تَسْلِيمٌ لِدَعْوَى التَّخْصِيصِ قِيلَ وَفِيهِ أَيْ التَّخْصِيصِ نَظَرٌ؛ إذْ مِنْ شَرْطِهِ الْمُقَارَنَةُ وَالْمُخَصَّصُ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مُقَارَنًا، وَأَيْضًا قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: ١٨٥] خُصَّ مِنْهُ الْمَجَانِينُ وَالصِّبْيَانُ، وَلَمْ يَنْتِفْ عَنْ إثْبَاتِ الْفَرْضِيَّةِ وَعَلَيْهِ فَلَا حَاجَةَ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ مَمْنُوعٌ بِدَلِيلِ أَنَّ جَاحِدَهُ لَا يُكَفَّرُ، وَقَدْ قَالَ فِي أَوَائِلِ السِّيَرِ مِنْ الْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ وَالذَّخِيرَةِ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ ظَاهِرٌ نَظَرًا إلَى الْأَحْكَامِ حَتَّى إنَّ الصَّلَاةَ الْمَنْذُورَةَ لَا تُؤَدَّى بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَتُقْضَى الْفَوَائِتُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ اهـ.
وَلَوْ كَانَ ثَمَّةَ إجْمَاعٌ لَكَانَتْ تُؤَدَّى بَعْدَهُ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَالْحَقُّ أَنَّ التَّخْصِيصَ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ يَعْنِي عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ النَّذْرِ بِالْمَعْصِيَةِ وَنَحْوِهَا، وَلَا بُدَّ مِنْ مُسْتَنَدٍ، وَهُوَ الْمُخَصَّصُ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْإِجْمَاعُ كَاشِفٌ عَنْهُ وَمُقَرِّرٌ لَهُ، وَعِنْدَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالتَّارِيخِ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَارَنَةِ كَمَا تَقَرَّرَ، وَلَمْ يَنْعَقِدْ الْإِجْمَاعُ عَلَى فَرْضِيَّةِ مَا بَقِيَ بَعْدَ التَّخْصِيصِ بِخِلَافِ آيَةِ الصِّيَامِ اهـ.
قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: فَمَا فِي الْبَحْرِ غَيْرُ ظَاهِرٍ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ أَظْهَرَ، وَمَا فِي الْفَتْحِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute