وَاحِدٍ مِنْ الرَّاهِنَيْنِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا لِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي أَنَّهُ مِلْكُهُ وَرَهَنَهُ مِنْ الْمُدَّعِي وَيَجْعَلُ إقَامَتَهُ الْبَيِّنَةَ مِنْ الْمُرْتَهِنَيْنِ وَهُمَا يَحْتَاجَانِ إلَى إثْبَاتِ مِلْكِ الرَّاهِنَيْنِ لِيَصِحَّ رَهْنُهُمَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَامَ الرَّاهِنَانِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ وَالشَّيْءُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا كَانَ الْخَارِجُ أَوْلَى فَكَذَا هَذَا.
وَإِنْ كَانَ رَاهِنُ الْخَارِجِ حَاضِرًا وَرَاهِنُ ذِي الْيَدِ غَائِبًا فَذُو الْيَدِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَا يَنْتَصِبُ خَصْمًا لِمَنْ يَدَّعِي مِلْكًا فِي الرَّهْنِ كَالْمُودِعِ فَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ قَامَتْ لَا عَلَى خَصْمٍ، وَإِنْ كَانَ رَاهِنُ ذِي الْيَدِ حَاضِرًا وَرَاهِنُ الْخَارِجِ غَائِبًا فَكَذَلِكَ طَعَنَ عِيسَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَالَ حَضْرَةُ رَاهِنِ ذِي الْيَدِ تَكْفِي لِلْقَضَاءِ لِلْخَارِجِ؛ لِأَنَّ رَاهِنَ ذِي الْيَدِ انْتَصَبَ خَصْمًا لِلْخَارِجِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ وَالرَّهْنُ مِنْ ذِي الْيَدِ وَالْخَارِجِ مُرْتَهَنٌ وَالْمُرْتَهَنُ بِمَنْزِلَةِ الْمُودِعِ وَالْمُودِعُ يَنْتَصِبُ خَصْمًا فِيمَا يَسْتَحِقُّ لِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْحِفْظِ كَمَا لَوْ ادَّعَى إنْسَانٌ عَلَى الْمُودِعِ أَنَّ مَا فِي يَدِهِ مِنْ الْوَدِيعَةِ لِفُلَانٍ آخَرَ غَائِبٍ أَوْدَعَهُ إيَّاهُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ تُقْبَلُ فَكَذَا هَذَا وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْمُرْتَهِنَ كَمَا يُثْبِتُ الْمِلْكَ لِرَاهِنِهِ يَدَّعِي دَيْنًا وَهُوَ غَائِبٌ، وَلَيْسَ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ فَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ عَلَى إثْبَاتِ الدَّيْنِ فَلَا تُقْبَلُ عَلَى إثْبَاتِ الرَّهْنِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يَصِحُّ بِدُونِ الدَّيْنِ بِخِلَافِ الْمُودِعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ عَلَى مُودِعِهِ شَيْئًا بَلْ يَدَّعِي الْمِلْكَ لَهُ فَيَنْتَصِبُ خَصْمًا فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ، وَلَوْ ادَّعَى وَاحِدٌ عَلَى رَجُلَيْنِ الرَّهْنَ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَحَدِهِمَا أَنَّهُ رَهَنَهُ الْمَتَاعَ وَيَجْحَدَانِ الرَّهْنَ يَسْتَحْلِفُ مِنْ لَمْ يُقِمْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ، وَإِنْ حَلَفَ حَلَفَ رَدَّ الرَّهْنَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ الرَّهْنُ فِي حَقِّهِ فَلَا يُقْضَى بِهِ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ قَبْضًا بِالرَّهْنِ فِي نِصْفٍ مُشَاعٍ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، فَإِنْ نَكَلَ ثَبَتَ عَلَيْهِمَا عَلَى النَّاكِلِ بِالنُّكُولِ وَعَلَى الْآخَرِ بِالْبَيِّنَةِ.
وَإِنْ كَانَ الْمُرْتَهِنُ اثْنَيْنِ وَالرَّاهِنُ وَاحِدًا فَأَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنِّي ارْتَهَنْت وَصَاحِبِي بِمِائَةٍ وَأَنْكَرَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ الْآخَرُ الرَّهْنَ يُرَدُّ عَلَى الرَّاهِنِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُقْضَى بِهِ رَهْنًا وَيُجْعَلُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ الَّذِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَعَلَى يَدِ عَدْلٍ، فَإِنْ قَضَى الرَّاهِنُ الْمُرْتَهِنَ الْمُقِيمَ الْبَيِّنَةَ فَلَهُ أَخْذُ الرَّهْنِ، فَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ ذَهَبَ نَصِيبُهُ لَا نَصِيبُ الْجَاحِدِ وَلَا رِوَايَةَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيهِ لِمُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْمُدَّعِي إثْبَاتُ الرَّهْنِ عَلَى الرَّاهِنِ إلَّا بَعْدَ إثْبَاتِهِ عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ مِنْ اثْنَيْنِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِقَبُولِهِمَا جَمِيعًا فَكَانَ الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ سَبَبًا لِثُبُوتِ الرَّهْنِ فِي حَقِّهِ وَمَنْ أَنْكَرَ سَبَبَ ثُبُوتِ حَقِّ إنْسَانٍ يَنْتَصِبُ خَصْمًا لَهُ فَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى خَصْمِهِ كَمَا لَوْ ادَّعَى عَيْنًا فِي يَدِ إنْسَانٍ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ عَلَى ذَلِكَ وَمَتَى ثَبَتَ الرَّهْنُ مِنْهُمَا يُوضَعُ فِي نَوْبَةِ الْجَاحِدِ عَلَى يَدِ عَدْلٍ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ فِي حَقِّ الْجَاحِدِ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي وَالرَّاهِن مَا رَضِيَ بِحِفْظِ الْمُدَّعِي وَحْدَهُ وَلِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ مَا يَدَّعِيهِ عَلَى صَاحِبِهِ لَيْسَ سَبَبًا لِثُبُوتِ حَقِّهِ بَلْ هُوَ شَرْطٌ لِثُبُوتِ حَقِّهِ لَا قَوْلِ صَاحِبِهِ فَلَا يُمْكِنُهُ إثْبَاتُ قَوْلِ صَاحِبِهِ وَهُوَ جَاحِدٌ كَمَا لَوْ اُدُّعِيَا هُنَا مِنْ اثْنَيْنِ وَهُوَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا وَرَاهِنُ ذِي الْيَدِ حَاضِرٌ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ عَلَى إثْبَاتِ الرَّهْنِ عَلَى الْغَائِبِ كَمَا بَيَّنَّا فَكَذَا هَذَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمُرَجِّعُ وَالْمَآبُ.
[بَابٌ مَا يَجُوزُ ارْتِهَانُهُ وَالِارْتِهَانُ بِهِ وَمَا لَا يَجُوزُ]
لَمَّا ذَكَرَ مُقَدَّمَاتِ مَسَائِلِ الرَّهْنِ ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ تَفْصِيلَ مَا يَجُوزُ ارْتِهَانُهُ وَالِارْتِهَانُ بِهِ وَمَا لَا يَجُوزُ إذْ التَّفْصِيلُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْإِجْمَالِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَا يَجُوزُ رَهْنُ الْمُشَاعِ) يَعْنِي لَا يَصِحُّ رَهْنُ الْمُشَاعِ فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ رَهْنُ الْمُشَاعِ قَابِلُ الْقِسْمَةِ وَغَيْرُهُ فَاسِدٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ الضَّمَانُ إذَا قُبِضَ، وَقِيلَ بَاطِلٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الضَّمَانُ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْبَاطِلَ مِنْهُ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ الرَّهْنُ مَالًا، وَلَمْ يَكُنْ الْمُقَابِلُ بِهِ مَضْمُونًا وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ تَمَامِ الْعَقْدِ لَا شَرْطُ جَوَازِهِ، وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَجُوزُ؛ لِأَنَّ مُوجِبَهُ عِنْدَهُ بَيْعُهُ وَالْمُشَاعُ لَا يَمْتَنِعُ بَيْعُهُ وَلَنَا أَنَّ مُوجِبَهُ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ وَاسْتِحْقَاقُ الْحَبْسِ الدَّائِمِ وَلَا يُتَصَوَّرُ الْحَبْسُ الدَّائِمُ فِي الْمُشَاعِ؛ لِأَنَّهُ يَبْطُلُ بِالْمُهَايَأَةِ قَبَضَهُ كَأَنَّهُ رَهَنَهُ يَوْمًا وَيَوْمًا لَا وَلِهَذَا يَسْتَوِي فِيهِ مَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ وَمَا لَا يَقْبَلُهَا بِخِلَافِ الْهِبَةِ حَيْثُ تَجُوزُ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ؛ لِأَنَّ مُوجِبَهَا الْمِلْكُ وَلَا يَمْتَنِعُ بِالشُّيُوعِ وَلَا يَجُوزُ مِنْ شَرِيكِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْيَدِ فِي الْمُشَاعِ لَا يُتَصَوَّرُ وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لَأَمْسَكَهُ يَوْمًا بِحُكْمِ الرَّهْنِ وَيَوْمًا بِحُكْمِ الْمِلْكِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute