تَعَالَى سَمَّى الْمَهْرَ أُجْرَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: ٢٤] فَصَارَ شُبْهَةً؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ مَا يُشْبِهُ الْحَقِيقَةَ لَا الْحَقِيقَةُ فَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ: أَمْهَرْتُك كَذَا لِأَزْنِيَ بِك قَيَّدْنَا بِأَنْ يَكُونَ اسْتَأْجَرَهَا لِيَزْنِيَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِلْخِدْمَةِ فَزَنَى بِهَا يَجِبُ الْحَدُّ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يُضَفْ إلَى الْمُسْتَوْفِي بِالْوَطْءِ، وَالْعَقْدُ الْمُضَافُ إلَى مَحَلٍّ يُورِثُ الشُّبْهَةَ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ لَا فِي مَحَلٍّ آخَرَ.
(قَوْلُهُ: وَبِإِكْرَاهٍ) أَيْ لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِالزِّنَا بِإِكْرَاهٍ أَطْلَقَهُ فَشَمِلَ مَا إذَا كَانَ الْمُكْرِهُ السُّلْطَانَ أَوْ غَيْرَهُ أَمَّا إذَا كَانَ الْمُكْرِهُ السُّلْطَانَ فَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ أَوَّلًا يَقُولُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ؛ لِأَنَّ الزِّنَا مِنْ الرَّجُلِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بَعْدَ انْتِشَارِ الْآلَةِ وَهَذَا آيَةُ الطَّوْعِ وَوَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ السَّبَبَ الْمُلْجِئَ قَائِمٌ ظَاهِرٌ أَوْ هُوَ قِيَامُ السَّيْفِ عَلَى رَأْسِهِ، وَالِانْتِشَارُ دَلِيلٌ مُحْتَمَلٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ كَمَا فِي النَّائِمِ فَلَا يَزُولُ الْيَقِينُ بِالْمُحْتَمَلِ، وَأَمَّا إذَا أَكْرَهَهُ غَيْرُ السُّلْطَانِ، فَإِنَّهُ يُحَدُّ عِنْدَ الْإِمَامِ وَقَالَا لَا يُحَدُّ لِتَحَقُّقِ الْإِكْرَاهِ مِنْ غَيْرِ سُلْطَانٍ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ خَوْفُ الْهَلَاكِ وَيَتَحَقَّقُ مِنْ غَيْرِهِ وَلَهُ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِهِ لَا يَدُومُ إلَّا نَادِرًا لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الِاسْتِغَاثَةِ بِالسُّلْطَانِ وَبِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَيُمْكِنُهُ دَفْعُ شَرِّهِ بِنَفْسِهِ بِالسِّلَاحِ، وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ فَلَا يَسْقُطُ الْحَدُّ بِخِلَافِ السُّلْطَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِغَاثَةُ بِغَيْرِهِ وَلَا الْخُرُوجُ بِالسِّلَاحِ عَلَيْهِ قَالُوا: هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْ فِي زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ لِغَيْرِ السُّلْطَانِ مِنْ الْقُوَّةِ مَا لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا بِالسُّلْطَانِ وَفِي زَمَنِهِمَا ظَهَرَتْ الْقُوَّةُ لِكُلِّ مُتَغَلِّبٍ فَيُفْتَى بِقَوْلِهِمَا كَذَا فِي الظَّهِيرِيَّةِ فَلِذَا أَطْلَقَ فِي الْمُخْتَصَرِ.
(قَوْلُهُ: وَبِإِقْرَارٍ إنْ أَنْكَرَهُ الْآخَرُ) أَيْ لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِإِقْرَارِ أَحَدِ الزَّانِيَيْنِ إذَا أَنْكَرَهُ الْآخَرُ؛ لِأَنَّ دَعْوَى النِّكَاحِ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَهُوَ يَقُومُ بِالطَّرَفَيْنِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً، وَإِذَا سَقَطَ الْحَدُّ وَجَبَ الْمَهْرُ تَعْظِيمًا لِخَطَرِ الْبُضْعِ أَطْلَقَهُ فَشَمِلَ مَا إذَا قَالَ: لَمْ أَطَأْ أَصْلًا أَوْ قَالَ تَزَوَّجْت وَشَمِلَ مَا إذَا كَانَ الْمُنْكِرُ الرَّجُلَ أَوْ الْمَرْأَةَ وَهُوَ قَوْلُ الْإِمَامِ وَقَالَا: إنْ ادَّعَى الْمُنْكِرُ مِنْهُمَا الشُّبْهَةَ بِأَنْ قَالَ تَزَوَّجْته فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَإِنْ أَنْكَرَ بِأَنْ قَالَ مَا زَنَيْت وَلَمْ يَدَّعِ مَا يُسْقِطُ الْحَدَّ وَجَبَ عَلَى الْمُقِرِّ الْحَدُّ دُونَ الْمُنْكِرِ وَحَاصِلُ دَلِيلِ الْإِمَامِ أَنَّ الزِّنَا فِعْلٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا قَائِمٌ بِهِمَا فَانْتِفَاؤُهُ عَنْ أَحَدِهِمَا يُورِثُ شُبْهَةً فِي الْآخَرِ، وَإِذَا سَقَطَ الْحَدُّ وَجَبَ الْمَهْرُ تَعْظِيمًا لِأَمْرِ الْبُضْعِ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ مُنْكِرَةً لِأَمْرِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَةِ سُقُوطِ الْحَدِّ وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى أَنَّهُ لَوْ زَنَى بِامْرَأَةٍ خَرْسَاءَ لَا حَدَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَالَ فِي الْأَصْلِ وَجُعِلَ الْجَوَابُ فِي الْخَرْسَاءِ كَالْجَوَابِ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ نَاطِقَةً وَادَّعَتْ الْمَرْأَةُ النِّكَاحَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مَجْنُونَةً أَوْ صَبِيَّةً يُجَامَعُ مِثْلُهَا كَانَ عَلَى الرَّجُلِ الْحَدُّ وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ غَائِبَةً وَأَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّهُ زَنَى بِهَا أَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ، فَإِنَّهُ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الرَّجُلِ كَذَا فِي الظَّهِيرِيَّةِ.
[زَنَى بِأَمَةٍ فَقَتَلَهَا]
قَوْلُهُ (: وَمَنْ زَنَى بِأَمَةٍ فَقَتَلَهَا لَزِمَهُ الْحَدُّ، وَالْقِيمَةُ) مَعْنَاهُ قَتَلَهَا بِفِعْلِ الزِّنَا؛ لِأَنَّهُ جَنَى جِنَايَتَيْنِ فَيُوَفِّرُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حُكْمَهَا وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ؛ لِأَنَّ تَقَرُّرَ ضَمَانِ الْقِيمَةِ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْأَمَةِ وَصَارَ كَمَا إذَا اشْتَرَاهَا بَعْدَ مَا زَنَى بِهَا وَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ وَاعْتِرَاضُ سَبَبِ الْمِلْكِ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ يُوجِبُ سُقُوطَهُ كَمَا إذَا مَلَكَ الْمَسْرُوقَ قَبْلَ الْقَطْعِ. وَلَهُمَا أَنَّهُ ضَمَانُ قَتْلٍ فَلَا يُوجِبُ الْمِلْكَ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ دَمٍ وَلَوْ كَانَ يُوجِبُهُ إنَّمَا يُوجِبُهُ فِي الْعَيْنِ كَمَا فِي هِبَةِ الْمَسْرُوقِ لَا فِي مَنَافِعِ الْبُضْعِ؛ لِأَنَّهَا اُسْتُوْفِيَتْ، وَالْمِلْكُ يَثْبُتُ مُسْتَنِدًا فَلَا يَظْهَرُ فِي الْمُسْتَوْفَى لِكَوْنِهَا مَعْدُومَةً وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا زَنَى بِهَا فَأَذْهَبَ عَيْنَهَا حَيْثُ يَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا وَيَسْقُطُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ هُنَاكَ يَثْبُتُ فِي الْجُثَّةِ الْعَمْيَاءِ وَهِيَ عَيْنٌ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى أَنَّهُ لَوْ زَنَى بِحُرَّةٍ فَقَتَلَهَا بِهِ يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّ الْحُرَّةَ لَا تُمْلَكُ بِالضَّمَانِ، وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْهَا، وَإِنَّمَا أَفْضَاهَا بِأَنْ اخْتَلَطَ الْمَسْلَكَانِ، فَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً مُطَاوِعَةً لَهُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى شُبْهَةٍ فَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْإِفْضَاءِ لِرِضَاهَا بِهِ وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ لِوُجُوبِ الْحَدِّ، وَإِنْ كَانَ مَعَ دَعْوَى شُبْهَةٍ فَلَا حَدَّ وَلَا شَيْءَ فِي الْإِفْضَاءِ
ــ
[منحة الخالق]
[وَطْءِ مَنْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَزْنِيَ بِهَا]
(قَوْلُهُ: قَيَّدْنَا بِأَنْ يَكُونَ اسْتَأْجَرَهَا لِيَزْنِيَ بِهَا) أَيْ بِأَنْ يَقُولَ: اسْتَأْجَرْتُك لِأَزْنِيَ بِك أَوْ قَالَ أَمْهَرْتُك كَذَا لِأَزْنِيَ بِك أَوْ خُذِي هَذِهِ الدَّرَاهِمَ لِأَطَأَك كَمَا فِي الْفَتْحِ قَالَ وَالْحَقُّ فِي هَذَا كُلِّهِ وُجُوبُ الْحَدِّ إذْ الْمَذْكُورُ مَعْنًى يُعَارِضُهُ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: ٢] فَالْمَعْنَى الَّذِي يُفِيدُ أَنَّ فِعْلَ الزِّنَا مَعَ قَوْلِهِ أَزْنِي بِك لَا يُجْلَدُ مَعَهُ لِلَفْظِ الْمَهْرِ مُعَارِضٌ لَهُ. اهـ. وَأَقَرَّهُ فِي النَّهْرِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute